وفاة وزير التعليم في الصحراء الشرقية

توفي قبل ثلاثة أسابيع المرحوم محمد عيد الدماني الحويطات، في حادث سير، عن عمر 64 سنة، قضى منها ثلاثة عقود في العمل معلما غير نظامي في طول الصحراء وعرضها، بدون تكليف رسمي وبدون راتب ولا علاوات، وبدون ضمان اجتماعي ولا رعاية من حكومات ولا نقابة معلمين ولا حراكات شعبية.تعرفت على المرحوم الدماني قبل خمس سنوات، أثناء إجراء دراسة مسحية في الصحراء الجنوبية الشرقية. ومنذ ذلك الوقت، امتدت العلاقة به، لأكتشف حجم العطاء الذي يمكن أن يقدمه إنسان من زمن آخر في بيئة معزولة ومهمشة، بعيداً عن الأضواء والإعلام والتملق والنفاق السياسي والاجتماعي.عمل الدماني معلماً رحالا مع القبائل البدوية، في منطقة واسعة من الصحراء الشرقية الجنوبية والوسطى الممتدة من الجفر مروراً بباير ووصولاً إلى الأزرق. وتتلمذ في خيمته المتنقلة أجيال من أبناء هذه المجتمعات، حيث عجزت الدولة بكل مؤسساتها عن أن تصل إليهم. لم يكن معلماً مأجوراً يتقاضى مالا مقابل ما يقدمه، بل كان يؤمن بما يفعله بشغف كبير، يذكر بأجيال انقرضت من "المعلمين الرساليين" الذين يؤمنون بأن التعليم رسالة وليس مهنة. ولم يكن معلم قبيلة، بل قام بتدريس المئات من أبناء الحويطات، وبني عطية، وبني صخر، والحجايا وغيرهم. ولم تستقر خيمته في مكان واحد، بل تتبع مراعي البدو الرحل في الشتاء والصيف، حتى استحق أن يلقب بوزير التعليم في البادية الشرقية، نظراً لحجم العطاء الذي قدمه طوال تلك السنوات، ولما كان يقابل به من احترام وتقدير وسط أبناء تك المجتمعات ولدى كل من عرفه.كان المرحوم الدماني يتمتع بثقافة موسوعية غير تقليدية، ويجيد التحدث بالإنجليزية. وهو حاصل على شهادة المترك والثانوية من مدارس فلسطين في مطلع الستينيات، ومتابع جيد للآداب والفنون والسياسة أيضاً.استطاع الدماني أن يطور منهجه الخاص في تعليم أبناء البادية. وإلى جانب اعتماده المناهج الحكومية، كان يعتمد على مواد ومتطلبات إضافية لتلاميذه الذين يجري لهم امتحانات فصلية يعتمد على نتائجها في ترقيتهم إلى صفوف أعلى، فيما احتفظ بسجلات لأسماء الطلبة الذين تتلمذوا على يديه توضح سنوات الالتحاق بخيمته وعدد السنوات التي قضوها في التعليم ونتائجهم السنوية. وحتى العام 2010، كان في سجلات الدماني اسماء ما يقارب 600 طالب وطالبة قام بتعليمهم على مدى تلك السنوات في المتوسط ثلاث سنوات.في الصحراء الشرقية والجنوبية والوسطى، توجد مئات العائلات من البدو الرحل الذين يتنقلون في مساحة واسعة من الصحراء، حرم أطفالهم من وجود المدارس، حتى المدارس التجميعية في نقاط محددة. كما حرم أولئك الأطفال من المطاعيم، ومن أبسط حقوقهم في الرعاية الصحية، وحرمت تلك المجتمعات، وفي المقدمة أطفالها، من إيصال صوتها إلى عمان، وحتى لو وصل صوتها فلا ندري هل ستتغير الأحوال!في المقابل، تسهم نماذج نبيلة أمثال صاحبنا المرحوم الدماني في ملء هذا الفراغ، وسد تقصير الدولة ومؤسساتها. لم يكرم الدماني في حياته، ومات بحادث سير على طرق مهترئة، فهل سينال التكريم الرمزي في مماته؟!( الغد )