السلم الأهلي وخيار الشارع

يوجد قلق واسع انتقل خلال الساعات الأخيرة من النخب إلى عامة الناس، في ضوء استمرار التعبئة للمسيرة الحاشدة يوم الجمعة المقبل، والتي دعت إليها جبهة العمل الإسلامي ومجموعات من الحراكات الشعبية، مقابل سلبية حكومية غير مسبوقة، وحالة من الاستقطاب المتبادل وعصبية تغذيها وسائل إعلام من الطرفين.
حالة السّلم الأهلي في الأردن لم تختبر منذ عقود. وهناك منظوران في تقييم هذه الحالة، أحدهما يؤكد قوة السّلم الأهلي وصعوبة اختراقه، وذلك من منظور أمني بحت على خلفية أن الأمور ممسوكة جيداً؛ فيما يرى المنظور الآخر أن هناك هشاشة سياسية وديمغرافية، قد تتحول في لحظة ما إلى عاصفة سريعة من أعمال العنف.
والحقيقة أن أياً من المنظورين لم يختبر بشكل جدي، وهنا مصدر القوة والقلق معاً، وربما المدخل لمنظور ثالث يقول إن قوة السّلم الأهلي في الأردن تأتي من الخوف عليه، أي من إدراك الجميع، من قوى ومكونات اجتماعية وسكانية وقوى سياسية في الموالاة والمعارضة على حد سواء ومن مؤسسات سيادية، لعناصر الضعف والهشاشة، ومصادر التهديد التقليدية؛ ما خلق حالة غير مسبوقة من الحصانة الذاتية؛ بمعنى أن الخوف على السّلم الأهلي جعل الجميع، وعبر الأجيال، يشعرون بالمسؤولية حياله، وأن الجميع شركاء في حمايته.
هذا الاستنتاج تمكن مراجعته في الخبرات السابقة، من خلال تتبع سلوك التنظيمات السياسية، وعلى رأسها الحركة الإسلامية التي طالما أثبتت أنها مسؤولة في الشارع، كما هو الحال أيضا في خبرة الأجهزة الأمنية، وتحديداً في تعاملها مع الحراكات الشعبية خلال العامين الماضيين.
كل ذلك يُقدر ويؤخذ بعين الاعتبار، ولكن إلى أي مدى يمكن ضبط حركة الحشود الكبيرة في الشارع؟ والى أي مدى يمكن إخضاع التعبير الجماهيري للتقاليد الديمقراطية؟ وهل تملك هذه الأطراف خبرة التعامل في المواقف الجماهيرية الحرجة، بمنع تحول الجماهير الحاشدة إلى قطعان بشرية هائجة؛ أي عدم التورط في الأفعال الغوغائية التي لا ينفع معها تعقل أو انضباط؟
التظاهر والتجمع حقان دستوريان، وأداتان ديمقراطيتان للتعبير عن الرأي. وكلما ازدادت كثافة استخدام أي منهما، دل ذلك على قدرة النظام السياسي على التعامل مع الأدوات الديمقراطية واستيعابها من جهة، وعلى سوء مخرجات العملية السياسية وعدم التوافق حولها من جهة أخرى.
يبقى التظاهر والحشد الجماهيري أداة ديمقراطية إلى الحد الذي قد يهدد السّلم الاجتماعي. وهنا يجب إعادة النظر في جدوى هذه الأداة؛ فالسّلم الاجتماعي أهم من التعبير عن المطالب الإصلاحية مهما كانت.
والأخطر حينما تستخدم هذه الأدوات على خلفيات من التعبئة والتحشيد والاحتقان والريبة المتبادلة، ما يعني عملياً أن المسرح مهيأ للعنف وتهديد السلم الاجتماعي. هنا يصبح خيار الشارع خيار انتحار سياسي واستراتيجي.
ما يزال الرهان الحقيقي على رصيد العقلانية والحكمة التي عرفت بها الحركة الإسلامية في الساحة الأردنية. تلك العقلانية السياسية هي رصيد للمجتمع الأردني كله، ولا يجوز أن يسمح لفئة داخل هذا التيار السياسي أن تقوده إلى المجهول؛ فبقدر ما يجب أن نحرص على مستقبل الإصلاح، وهو مستقبل الأردن الذي نتطلع إليه، فإنه يجب أن نحرص أيضا على مستقبل الحركة الإسلامية بأن تكون الشريك الحقيقي في صياغة الإصلاح وبناء الدولة الأردنية الديمقراطية، لا أن تخطف الحركة من الداخل وتنزع عنوة من السياق الاجتماعي والسياسي الذي ولدت وازدهرت فيه.
( الغد )