د.عبد الرحيم ملحس في ذمّة الله

رحل الدكتور عبد الرحيم ملحس إلى عالم الآخرة، وترك خلفه أثراً جميلاً يتذكره الأردنيون بنوع من التقدير العالي، والوفاء والاحترام، عندما أطلق صيحته الجريئة والشجاعة في وقتٍ مبكر وهو يحتل مقعد وزير الصحة عام 1994م، فقد تعرض لموضوعٍ حساس ومهم له خطورة بالغة على سلامة المواطن الأردني، عندما لمس عن قرب حجم الفساد المرعب في موضوع الغذاء والدواء، وأدرك الدور المذموم الذي تلعبه مجموعة من الحيتان الكبار الذين أثروا ثراءً فاحشاً عن طريق إدخال قمامة العالم ونفاياته الخطيرة إلى أسواقنا المحلية، تحت بصر المتنفذين وسمعهم طوال عقودٍ من الزمن.
ما زلت أتذكر عندما زرت الدكتور ملحس في عيادته، وتجاذبنا اطراف الحديث في الشأن الوطني وهموم الناس، فوجدته رجلاً من رجالات هذا الوطن، يعيش همّ وطنه وشعبه، ويدرك عمق الخلل في النظام السياسي العربي، ويتمتع بجرأة عز نظيرها في زمن الصمت والخذلان والبحث عن السلامة، ويتمتع بحاسة صادقة قادرة على تلمس معالم المشكلة وتشخيصها بدقة، وكأنّه يمارس مهنة الطبيب الممارس الذكي في البحث عن أصل المرض، والوقوف على أسبابه الحقيقية، بمنهج علمي وطريقة موضوعية.
صرخة عبد الرحيم ملحس المدوية في عالم الغذاء والدواء، تتردد أصداؤها اليوم على جدران المطاعم الراقية، والمحال الكبيرة والماركات العالمية، التي لا تراعي مقاييس السلامة ولا معايير ضبط الجودة، مكتفية بالشهرة الكبيرة التي حققتها وقدرتها على تقديم الرشاوى للمسؤولين، وقدرتها على التملص من الأحكام والعقوبات، فيما لو تمّ ضبط مخالفاتها، واكتشف سرها.
يحدثني أحد النواب في الدورات البرلمانية السابقة، أنّه وصلته وثيقة تفيد بأنّ شحنة كبيرة من القهوة القادمة على إحدى البواخر الأردنية غير صالحة للاستهلاك البشري، فتمّ إثارة الموضوع في جلسة النواب ممّا أدى إلى القيام بإجراءات حكومية تمنع دخول الشحنة، ولكن التاجر الكبير صاحب الشحنة قام بزيارة مقصودة للنائب، ووجده متصلباً في شأن هذه الشحنة التي تؤثر في صحة المواطنين وأنّه لا مجال للتساهل بهذا الشأن الخطير فما كان من التاجر إلاّ أن أطلق تصريحاً قوياً مملوءاً بالثقة، قائلاً: "والله لتشربوها".
وفعلاً فقد برّ التاجر بيمينه، حيث تمّ إعادة فحص عينة جديدة من الشحنة في مختبرات رسمية، وكانت نتيجة الفحص أنّ الشحنة سليمة، وصالحة وتمّ إدخالها إلى السوق بطريقة شرعية، وشربها المواطن بالهناء والشفاء، وتكررت الحالة ذاتها في شحنات غذائية كبيرة عدة، تمثلت بشحنات قمح فاسدة وشحنات أسماك تالفة، وشحنات غذائية ملوثة بالإشعاع النووي، وفي كل مرة عندما كانت نتيجة الفحص المخبري تفيد بأنّ هذه الشحنات مخالفة للمواصفات، وغير صالحة للاستهلاك البشري، كان يتمّ إعادة الفحص مرة أخرى بمعاملة جديدة تكفل سلامتها، ومطابقتها للمواصفات مسبقاً، ولكن بأشخاص جدد، وتعليمات جديدة.
قبل ما يزيد على سنة، تمّ الإشارة إلى إدخال سماد "الحمأة" إلى الأسواق الزراعية الأردنية، ذلك السماد المصنّع من مخلفات الإنسان في إحدى المستوطنات "الإسرائيلية"، وتمّ إحالة المسألة إلى هيئة مكافحة الفساد، ولكن منذ ذلك الوقت لم يصدر أي خبر حول ذلك الموضوع؛ حيث أنّ القوانين الأردنية تمنع استيراد هذا النوع من الأسمدة عالية السميّة، التي تشكل تهديداً خطيراً لصحة الإنسان.
لا يسعنا إلاّ أن نترحم على فقيد الأسرة الأردنية الكبير، الدكتور عبد الرحيم ملحس، كلما سمعنا خبراً عن شحنة غذاء فاسدة يجرى التوسط لإدخالها، أو تمّ اكتشاف دواء مزيف تمّ تصنيعه بإشراف أحد الأثرياء، أو جاءت باخرة مطاردة من كل موانئ دول العالم، وتجد لها ملاذاً في ميناء العقبة، وتجد من يستعد لإفراغ حمولتها الخطرة بثمنٍ بخس !!.
( العرب اليوم )