فوز أنكى من الفشل !!

شاءت المصادفة ان أكون في فرنسا عندما حصل اليميني المتطرف لوبان على ما يقارب العشرين بالمئة من أصوات الفرنسيين، وبمقياسنا التقليدي ووفق الحواسيب الصماء فشل لوبان، ثم فوجئت في اليوم التالي وكنت مع الصديق الشاعر نوري الجراح في منزل مهندس معماري وناشط سياسي من أنصار البيئة في الجنوب أن صديقنا الفرنسي غاضب، ويرتعش على مستقبل فرنسا لأن مقياسه في الفشل والنجاح -قدر تعلق هذه الثنائية بالرئاسة الفرنسية- مختلف، ولها مرجعيات ثقافية اخرى، لهذا قال بأن حصول شخص من طراز لوبان على خمس الأصوات هو انذار بكارثة، واستشهد بعبارة لجان بول سارتر كان قد كتبها في اربعينات القرن الماضي واثناء الاحتلال النازي لبلاده، والمقصود بالعبارة هو المارشال بيتان الذي اعلن جمهورية فيشي تحت إبط الاحتلال وبرعايته، قال سارتر ان أمثال بيتان يجب ألا تتجاوز نسبتهم الثلاثة بالمئة من مجمل السكان، وهي النسبة التقليدية للشواذ، وهذا ينطق من وجهة نظر صديقنا الفرنسي على لوبان وان بشكل مختلف، وبالمقابل قد تكون نسبة الستين أو حتى السبعين بالمئة التي يفوز بها زعيم من طراز الجنرال ديغول فشلاً، رغم ان الآخرين يقبلون ويقرعون طبول الفوز والفرح اذا فازوا بفارق واحد بالمئة فقط.
من وجهة نظر ديغول كبطل قاوم الاحتلال حتى التحرير يجب أن يفوز بالاغلبية الاقرب الى الاجماع الوطني، وبغير ذلك تكون صورته كرمز قد تغيرت لهذا فضل الانسحاب والعيش في منزله الريفي يكتب المذكرات ويقرأ التاريخ ويسقي أشجار حديقته!
هكذا تصبح ثنائية النجاح والفشل نسبية ولا تخضع للحاسوب التقليدي ما دام الفائز بأكثر من ستين بالمئة يعتبر نفسه فاشلاً والحاصل على أقل عشرين بالمئة من وجهة نظر خصومه ناجحاً!
نعرف تجارب انتخابية في عالمنا العربي تحول فيها الفوز الى عبء وكانت الخسارة أسلم، وروى لي صديق عن جمال مبارك انه قال في اعقاب الانتخابات الاخيرة قبل سقوط النظام بأن الفوز المبالغ فيه للحزب الوطني قد تكون له نتائج كارثية، وهذا ما كان بالفعل عندما انتهى الفائزون الى المحاكم والسجون!
كل هذه المواقف تبرهن على ان للديمقراطية ثقافة لا تقبل حرق المراحل، فهي ليست مجرد صلة بين حاكم ومحكوم، انها قبل ذلك تربوية ومناخ مبثوث في كل النسيج الاجتماعي، وقد يكون أخطر تجلياتها العلاقة بين المحكوم والمحكوم، وبين الاب والابن والمعلم والتلميذ ورب العمل والعامل.
وكل من تحول فوزهم الى حمولة ثقيلة أدركوا بعد فوات الاوان ان هناك وجهاً آخر لعملة النجاح والفشل، وهي النجاح الفاشل والفشل الناجح، وقد تبدو هذه العبارات شكلية أو تلاعباً بالألفاظ، لكنها في حقيقتها واقع تاريخي بامتياز، وحين قال شلومو رايخ عن اسرائيل بأن هزيمتها الكبرى ستكون حاصل جمع انتصاراتها الصغرى، عبّر بدقة عن هذه الأطروحة المضادة للسائد، واذا كان من تدرب على السباحة فوق سريره أو على الرمل على موعد محتم مع الغرق، فان من تدربوا على الديمقراطية في الصالات وعلى الورق هم على موعد محتم مع إعادة انتاج الطغيان!!
( الدستور )