ثقافة صراعية تتشكل .

كلما طال المكوث في مرحلة انتظار الإصلاح، أي كلما طالت المرحلة الانتقالية، زاد ذلك ليس فقط من الكلف السياسية والاقتصادية، بل أعمق من ذلك الكلف الاجتماعية والثقافية. ونحن اليوم نتكلم عن واحدة من أطول مراحل الانتقال السياسي التي تجاوزت العقدين ولم تشهدها دولة أخرى في العالم منذ بدء الموجة الديمقراطية الثالثة.
صحيح أن المرحلة الانتقالية في الأردن بقيت، طوال هذه الحقبة، تستند إلى المنظور الإصلاحي السلمي، ولكنها في العمق تشكل بذورا صراعية، كلما طالت هذه المرحلة، تعمقت أكثر في الثقافة والمجتمع، وهما أخطر من السياسة والاقتصاد. ولا يقصد بذلك خطوط التقسيم التقليدية المعروفة في الأردن، بل البنى والتشكل الثقافي للناس الذي يتجاوز لعبة الجغرافيا والجهات والمفهوم الرسمي للولاء السياسي.
يشهد المجتمع الأردني مظاهر متعددة من ملامح العبور الثقافي في مرحلة انتقال سياسي طويلة ورتيبة، ما يعني أن تلك الملامح قد تتحول إلى سمات يصعب التخلص منها. وبكل الأحول، فثقافة العبور ظاهرة صحية، تشير إلى حيوية المجتمع ووجود الإرادة والقدرة على الدخول في التغيير، لكنها تتحول إلى مشكلة مستعصية إذا طالت فترة الانتقال، وامتدت أكثر من ثلاثة عقود؛ أي حينما تصبح لهذه الثقافة قوة التوريث.
لقد ازدادت مظاهر الصراع داخل الثقافة المجتمعية مع انعكاس تأثير الأزمات الاقتصادية والسياسية. والصراع يتعدى التناقض نحو الاشتباك. ويبرز الصراع على خطوط اشتباك عديدة، بين التقليدية والتحديث، وبين الثقافة الأبوية والثقافة الفردية، وبين الردة الاجتماعية والتدين الاجتماعي والحداثة.
إذ يعود المجتمع الأردني المعاصر نحو ثقافة أبوية صراعية. وإذ تعد القيم الثقافية الأبوية هي استمرارية ثقافية قائمة على الإكراه والعادة ولا تعترف باستقلالية الفرد، بل بإكراه الجماعة وقوة ضبطها، كما تعبر عنها بعض أنماط التعبيرات المتعددة، فإن هذه القيم تشهد مرحلة انتقالية معقدة، إذ يتهيأ المجتمع للانسحاب التدريجي والبطيء من سطوة الثقافة الأبوية نحو ثقافة فردية حداثية، مقابل جاذبية تقوده لإنتاج ثقافة أبوية نظامية أخرى، ليست التعبيرات العشائرية والعائلية الجهوية، وحتى التعبيرات الإعلامية، إلا بعض أنماطها، إلى جانب خط صراعي ثقافي لا يمكن تجاهله بين ثقافة محافظة مستعادة ومتجددة على أساس قيم متوارثة، وأخرى مستوردة أبرز مظاهرها قيم تدين اجتماعي غالبا ما تكون استهلاكية وللتسويق الاجتماعي.
حالة من الارتداد الثقافي القاسي وسط عمليات التحديث المضطربة؛ ولعل أهم مظاهر هذا الارتداد الثقافي عودة المرجعيات الأولية بقوة في الحياة اليومية، ومظاهر متعددة للمحافظة في السلوك العام والمظهر واللباس في المدن أكثر من الأرياف. يحدث ذلك في الوقت الذي ازداد فيه قبول المجتمع الأردني لحقيقة التعدد، وازداد إدراك أفراده أن التنوّع والتعدد هما أحد المصادر الأساسية لقوة وثراء المجتمع. وقد أبرزت هذه المرحلة اشتباكا وعدم وضوح وخلطاً بين الثقافات الفرعية والهويات الفرعية. وبينما تشكل الثقافات الفرعية عنصر بناء في مسار بناء الدولة الوطنية، فإن الهويات الفرعية وصفة قاتلة.
الثقافة هي الطريقة التي يعيش بها الناس، وهي عملية تشهد تغيرات بطيئة، وفي المدد الطويلة، وحينما تبرز تحولات ما وتقود إلى اختلالات. يدل ذلك على تحولات في الطريقة التي يدير الأفراد بها علاقاتهم ببعضهم بعضا، وعلاقاتهم بالمؤسسات. في هذه اللحظة فإن سؤال الثقافة المجتمعية لا يقل أهمية عن سؤال السياسية والاقتصاد، بل يستدعي النظر فيما فعلت السياسة والاقتصاد في العمق.
( الغد )