طائرة بدون طيّار

لم يسبق لطائرة عربية، بطيّار أو دونه، أن اخترقت الأجواء الإسرائيلية وحلقت فيها لما يقارب ثلاث ساعات ، وقطعت مسافة ثلاثمائة كيلومتر، ولامست ضفاف «قدس أقداس» إسرائيل في ديمونا...لكن «حزب الله» فعلها أخيراً...وأدخل في قلب «معادلة الردع» التي يعمل على بنائها مع إسرائيل، سلاحاً نوعياً جديداً.
إسرائيل أعلنت النفير في دوائر قرارها الأمني والإستراتيجي، واضعة على مائدة البحث والتحليل والقرار سؤالين اثنين: الأول، كيف أمكن للحزب أن يحلّق في سماء إسرائيل، وفوق أعماقها ومنشآتها الأكثر حيوية، كل هذه المسافة وطوال هذا الوقت، دون أن تكتشفه منظومة «القبة الحديدية» وأجهزة الرادارات المتطورة ؟!
والثاني: ما الأثر الذي يمكن لهذا السلاح أن يحدثه في معادلة الاشتباك وقواعده على الجبهة الشمالية ؟! في دلالة التوقيت، توقيت إطلاق الطائرة «أيوب»...رأى خصوم الحزب وحلفاؤهم، أنها محاولة من الحزب لـ«أقلمة» الصراع الدائر في سوريا، لتخفيف الضغط على حليفه الرئيس: نظام الرئيس بشار الأسد...بعضهم تحدث عن حزب مأزوم، يسعى بتصدير أزمته للخارج (الهروب للأمام)...جميعهم نظروا لـ«أيوب» بوصفها توريطاً للبنان (الذي هو ليس طائرة دون طيّار)، بل وللحزب أيضاً، وعادوا للتذكير بالحاجة لإستراتيجية دفاعية تضع مقدرات الحزب واقتداره، في تصرف الدولة اللبنانية.
مؤيدو الحزب وداعموه العرب والإقليميون، رأوا شيئاً آخر، مغايراً تماماً...تحدثوا عن «اختراق» في «معادلة الردع المتبادل»...عن قواعد جديدة للاشتباك...عن رسائل لإسرائيل، وليس للداخل اللبناني...دون أن يغلقوا الباب في وجه تحليلات تضع «المقاومة اللبنانية» في سياقها العربي والإقليمي، المرتبط بتطورات الأزمة السورية واحتمالات الحرب على إيران، مستندين في ذلك إلى آخر خطاب للسيد حسن نصرالله، نفى فيه تورط الحزب -حتى الآن- في الأزمة السورية، دون أن يسقط احتمالات دخوله اللاحق على «خطوط نارها».
والحقيقة أن ردود الفعل الإسرائيلية على «أيوب»، جاءت اكثر توازناً واتزاناً من ردّات فعل خصومه ومجادليه العرب والمحليين ...كما أن ردات فعل دولية،غير صديقة للحزب، جاءت أكثر هدوءاً من ردّات فعل خصومه الطائفيين والمذهبيين، فسفيرة الاتحاد الأوروبي في لبنان، عبرت عن إدانة الاتحاد للخروقات على ضفتي الحدود والأجواء، وهذا ما لم نقرأه في تصريحات نارية عديدة للبنانيين مناهضين للحزب لأسباب مختلفة.
إسلاميون عرب و»مقاومون سابقون»، لاذوا بصمت القبور حيال المسألة برمتها...فقد رأوا فيها من جهة، إحراجاً شديداً لهم، بعد التبدلات الأخيرة في مواقفهم وخطابهم...وهي من جهة ثانية، تهبط عليهم وهم في ذروة الاشتباك مع حلفاء الأمس، على خلفية «الربيع العربي» وتداعيات الأزمة السورية.
لو أن حادثة «الطائرة دون طيّار» وقعت في زمن آخر، لكانت استُقبلت بطريقة مختلفة تماماً...لكان قيل فيها ما لم يُقل في «ستالينغراد»، ولنهضت كبرهان على جدوى وجدية إستراتيجية المقاومة، وكشاهد حيٍّ على بؤس نهج كامب ديفيد وما تلاه...لكن القوم منصرفون إلى ما هو أهم من ذلك، بعد أن دانت لهم السلطة في غير عاصمة أو تكاد.
أياً يكن من أمر، فإن أحداً لن يجادل في «الأبعاد الإقليمية» لخطوة حزب الله، ولا يمكنه التنكر للمضامين السورية والإيرانية للرسائل التي حملها «أيوب» معه إلى الداخل الإسرائيلي...لكن ألم تكن هذه هي الحال باستمرار، ألم تكن كذلك في زمن «النصر المؤزر» في تموز، والحلف المقاوم «المقدس»؟..وهل ينفي حزب الله ابتداءً، تحالفاته العربية والإقليمية، حتى يُطل علينا الناطقون والمتحدثون بـ»اكتشاف النار»؟
أياً تكن دوافع حزب الله ومضامين رسائله، فإن الأمر الذي لا جدال فيه ولا مراء، هو أن الحزب رفع قفاز التحدي في وجه إسرائيل كما لم يجرؤ كثيرون من قبله، وأدخل عنصراً جديداً في معادلة الردع وقواعد الاشتباك...و»أيوب» الذي قام بأولى رحلاته عابراً لـ»فلسطين التاريخية» أعزل من السلاح، قد يعود إليها مدججاً به ذات يوم...وهذا أمر تفكر به إسرائيل وتحسب له ألف حساب، بعيداً عن حروب الطوائف والمذاهب التي تكاد تأكل الأخضر واليابس، وتطيح كما حذرنا من قبل، بأنبل ظاهرتين شهدهما العالم العربي في نصف القرن الأخير: المقاومة وثورات الحرية والكرامة.
( الدستور )