الصمت التركي على « مبادرة لافروف »

لزمت الحكومة التركية الصمت حيال «مبادرة روسية» تقضي بإنشاء «قناة/مكتب اتصال أمني» سوري – تركي، يتولى ضبط الحدود والحيلولة دون تحول «حادث فردي معزول» إلى حرب شاملة، يزعم قادة البلدين أنهما لا يودان الانزلاق إليها...في الوقت الذي رحبت فيه سوريا بهذه «المبادرة»، وأبدت الاستعداد للشروع في تنفيذها، مضيفة إليها «أبواباً وفصولا» تكفل تحقيق الأمن الشامل والمتبادل على امتداد هذا الخط الملتهب.
لا أحسب أن للنظام في سوريا مصلحة في الانجرار إلى حرب مع الجارة الشمالية، فهي تفوقه قوة وعدداً وعتاداً واقتدارا، وجيشه منهك بعد عام ونصف العام من «حرب داحس والغبراء» مع المعارضة المسلحة...والنظام في دمشق، يدرك قبل غيره، أن حرباً كهذه، ستفضي في أحسن سيناريوهاتها إلى إقامة منطقة عازلة تقتطع شمال سوريا وأجزاء من وسطها...وفي أسوئها إلى انهيار النظام بمجمله.
ولهذا السبب بالذات، لم نأخذ على محمل الجد والجدية، بعض التحليلات والمواقف، التي تصدر غالباً عن المعارضة وداعميها، والتي تروج لنظرية «تصدير الأزمات»، وتحاول من خلالها أن تفسر كل حادث حدودي مع تركيا أو غيرها، بهذه النظرية، بما في ذلك حادثة «الطائرة من دون طيّار» التي أرسلها حزب الله إلى العمق الإسرائيلي قبل أيام.
في المقابل، تركيا تبدو متأهبة للحرب، وتستعجلها، بيد أن أنقرة تريدها بغطاء دولي و»أطلسي» و»عربي» إن أمكن...هي تخشى عواقب الحرب وتداعياتها عليها، إن لم يكن في أيامها وأسابيعها الأولى، فبعد ذلك بقليل...إلحاق الهزيمة بالجيش السوري من قبل نظيره التركي، لا يحتاج إلى معجزة، لكن الاحتفاظ بالنصر وقطف ثماره، هما المعجزة بعينها، ومن تساوره الشكوك في ذلك، عليه أن يقرأ جلياً تجربة الحرب الأمريكية على العراق، وكيف أن دخول بغداد لم يكن أبداً مثل الخروج منها.
ولأنقرة مشكلات كبرى كذلك مع «الداخل التركي» الذي يبدو في غالبيته الساحقة، مناهض للحرب على سوريا أو للتورط عسكرياً في الأزمة السورية، بالنظر للانعكاسات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي قد تترتب على أية «مغامرة غير محسوبة» من هذا النوع...وبهذه الأسباب مجتمعة، يمكن تفسير حالة الضيق و»العصبيّة» التي تجتاح القيادات التركية هذه الأيام.
وبالعودة للمقترح الروسي، فإن لسوريا مصلحة لا تقدر في ضبط الحدود المشتركة بين البلدين، وهي الحدود المسؤولة عن الجزء الأكبر من دفق السلاح والمسلحين من شتى المشارب والإيديولوجيات إلى الداخل السوري، فضلا بالطبع عن مصلحة سوريا في تفادي المواجهة العسكرية المباشرة مع جارتها الكبرى.
أنقرة ليست في وارد «طمأنة» الأسد، أو «إراحة باله»، لقد استثمرت الكثير، مالياً وعسكريا وسياسياً، في مشروعها لدعم «الثورة السورية»...وهي ستظهر كمن «يقطع الحبل بصاحبه وهو في منتصف المسافة إلى قعر البئر»...كما أن أمراً كهذا، سيظهر أنقرة بمظهر من تراجع خطوات للوراء، وهذا سيكون مكلفاً على حزب العدالة والتنمية وهو يتحضر لجولة قادمة من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
لهذا تجاهلت الحكومة التركية مبادرة سيرغي لافروف، وتذرعت بأنها لم تتسلمها رسمياً حتى الآن، في حين سارعت الحكومة السورية، صاحبة المصلحة، وقبل تسلم المبادرة رسمياً هي الأخرى، إلى إعلان الترحيب بها وإبداء الاستعداد للتعاون والشروع في تفتيح قنوات التنسيق الأمني الخلفية، شريطة أن تشمل مختلف القضايا ذات الصلة بأمن الحدود وحفظها على الجانبين واحترام سيادة الدولتين، ومنع تسرب السلاح والمسلحين.
في ظني أن مبادرة لافروف، ليست بعيدة عن مناخات مهمة الأخضر الإبراهيمي...فالرجل كان صريحاً وواضحاً في مناشدته مختلف الأطراف، وقف إرسال السلاح والمسلحين إلى سوريا...والرجل يتحدث عن «قوات حفظ سلام» لن يكتب لها النور أو النجاح في أداء مهمتها، إن ظل حال «الفلتان» على الحدود السورية التركية على حاله، سيما وأن «عابري الحدود» من تركيا باتجاه سوريا، لا يقتصرون بالعادة على الجيش السوري الحر، بل ويشتملون كذلك على «المجاهدين» من مختلف المدارس السلفية، التوّاقة لقتال «اليهود والنصارى».
واحسب أن أنقرة، ستجد نفسها مضطرة، وربما ليس بعد وقت طويل، للإصغاء للافروف والإبراهيمي، وتجرّع كأس المبادرات السياسية المر، فهي وحدها تقريباً، من لا يزال يقرع طبول الحرب، ويسعى في تجييش «الناتو» ويشن أعنف الحملات على روسيا والصين والمجتمع الدولي ومجلس الأمن.
( الدستور )