السياسة الإيرانية بين دمشق وبغداد

كنت أحد المعجبين بالثورة الإيرانية ضد الشاه؛ لأنّها كانت نموذجاً للثورة الشعبية السلمية على حكم الاستبداد الفاسد، الذي غيَّب الشعب الإيراني عن المشاركة في السلطة، وحرمه من حقه في اختيار الحكومات ومراقبتها ومحاسبتها واستخدام كل وسائل القمع والرعب الأمني والقوة المسلحة لإسكات الصوت المعارض، وكنت أود أن تكون الثورة نصيراً لكل الشعوب العربية والإسلامية المستضعفة التي تعاني من تحالف الاستبداد والفساد، ضد قوى الاستكبار والاستعمار العالمي.
لكن هناك مفارقات في المواقف والسياسات الخارجية الإيرانية تجاه العواصم العربية، جعلت المواطن العربي يشعر بالارتباك والتردد، ولا يستطيع أن يمسك بالجانب المعياري الذي يستطيع أن يقوّم به السلوك السياسي الإيراني ويفسره بطريقة موضوعية.
لقد أعلنت ايران خصومتها العلنية "للولايات المتحدة الأمريكية" واعتبرتها الشيطان الأكبر وجرى ما جرى بينهما من مواجهات ومناوشات وحروب إعلامية ودبلوماسية، لكننا وجدنا موقفاً ايرانياً يناقض هذه الاستراتيجية السياسية المعلنة في ما يتعلق بالغزو الأمريكي على العراق وأفغانستان، ولقد صرح قادة إيران السياسيين وعلى رأسهم الرئيس الأسبق (رافسنجاني) الذي قال ما كان للحملة الأمريكية على أفغانستان والعراق أن تنجح لولا الدعم والتسهيلات الإيرانية، وهذا الكلام صحيح ويصدقه الواقع تماماً؛ فالموقف
الإيراني المتواطئ مع أمريكا والمشارك لها في تدمير العراق نظاماً ومؤسسات لا يستطيع إنكاره أحد، وما زالت إيران هي المتنفذ الأكبر والأكثر سطوة في التأثير على مجريات إدارة النظام العراقي بعد سقوط نظام البعث العراقي برئاسة "صدام حسين" الذي تمّ إعدامه تحت إشراف أتباع النظام الإيراني، ولم تكتف إيران بإعدامه وإنّما شكلت فرق اغتيال للقيام بأعمال التصفية ضد قوائم من القادة السياسيين والعسكريين وأساتذة الجامعات وعلماء الدين وأئمة المساجد وإشعال حرب طائفية عميقة لم تتوقف حتى هذه اللحظة، وأسفرت عن تدمير الدولة ونهب مؤسساتها.
على الطرف الآخر تقف إيران موقفاً سياسياً مناقضاً تماماً لموقفها السابق تجاه دمشق والنظام الحاكم فيها، فقد تمّ إنشاء تحالف سياسي قوي بين طهران ودمشق منذ أيام الثورة الأولى وأعلنت أنّها سوف تدافع عن دمشق كما تدافع عن طهران وأمدّت النظام بكلّ أنواع القوة والخبرة، وأصبحت هي التي تتولّى قيادة دفة المواجهة مع الشعب المقهور، فعلى أي أساس يمكن تفسير هذا التناقض بين الموقفين، في حين أنّ بغداد ودمشق آنذاك كانتا تحت سيطرة حكم "البعث" ، وكلاهما يرفعان راية القومية العربية ويحكمان على أساس عروبي، فإذا أردنا تفسير الموقف الإيراني على أساس مبدئي ينبع من الفكر الإسلامي، يصعب ذلك ويستحيل.
وإذا أردنا أن نفسر الموقف بناءً على الموقف السياسي المعادي للكيان الصهيوني وحليفه الشيطان الأكبر، والمساندة للقضية الفلسطينية من جانبه الآخر؛ فالرئيس (صدام حسين) أكثر عداءً للكيان الصهيوني وأكثر مقاومة وممانعة، والرئيس صدام لم يكتف بالممانعة اللفظية والخطابية بل استطاع أن يضرب (تل أبيب) بالصواريخ، ودعم نضال الشعب الفلسطيني بقوة كبيرة لم يستطع نظام عربي أن يقدم ما قدمه، ومن المعروف أنّه تبنّى برنامج دعم أسر الشهداء وكل من تهدم منزله من قبل قوات الاحتلال، بحيث شعر الكيان الصهيوني بالتهديد الحقيقي من دولة العراق القوية آنذاك.
لقد وقفت إيران ضد (النظام العراقي) آنذاك الذي كان يتعرض للاحتلال الأمريكي احتلالاً كاملاً واضحاً صريحاً بجيش قوامه (150) ألف جندي بالتعاون مع قوات أجنبية أخرى كثيرة من دول كثيرة وعديدة، بشكلٍ صريح ومعلن، ولم تكن ثورة شعبية في العراق، والآن تقف ايران تجاه النظام الحاكم في دمشق الحليف المؤيد بالسلاح والمال والمقاتلين والموقف السياسي المعلن ضد ثورة شعبه، وليس هناك تدخل من الجيش الأمريكي والجيوش العالمية على الأرض السورية، بل إنّ أمريكا وفرنسا والغرب عموماً أعلنوا موقفهم الصريح بعدم التدخل.
لقد تحول العراق إلى دولة ضعيفة مفككة، غير قادرة على تهديد (اسرائيل) وغير قادرة على نصرة القضية الفلسطينية ولا أية قضية عربية، بل إنّ المالكي الذي أشرف على إعدام الرئيس صدام حسين ويقود حملة اجتثاث البعث على الساحة العراقية، يقف اليوم بالباع والذراع مع بشار الأسد البعثي.
ومن هنا فإنّ المقولة تحالف (روسي ـ إيراني ـ سوري) ضد إسرائيل وأمريكا وقوى الاستعمار والرجعيّة والتكفيرية، تمثل رواية متهافتة ومتناقضة، وما هي إلاّ لعبة قذرة ذهب ضحيتها الشعب السوري الثائر الذي يريد وضع حد لمجازر النظام ودمويته المرعبة التي دمرت الدولة والمؤسسات والإنسان، برضا كل الأطراف الدولة وبتواطؤ المحورين!!.
( العرب اليوم )