الفرار من أعباء الحرية ! !

قبل ان اقرأ كتاب اريك فروم «الخوف من الحرية» بأكثر من ثلاثين عاما، شاهدت واقعة جعلتني محصنا ضد الاندهاش من كل ما جاء في الكتاب، كان اثنان ممن يسمون في الريف الفلسطيني «القطاريز» يعيشان ويكدحان في بيت احد الملاكين الكبار، ولم تكن لاي منهما اية صفة غير انه من مستخدمي ذلك الرجل، وحين بدأت الاحوال الاجتماعية تتبدل اقترح عليهما ان يذهبا الى الكويت، وطلب من احد اقاربه الذي كان يشغل منصبا مرموقا ان يقدم لهما العون، وتعهد الرجل لهما بكل متطلبات السفر.
وسافرا بالفعل، وحصلا على وظيفتين على ما اذكر لهما علاقة بوزارة الكهرباء، لكنهما بعد اقل من اسبوع عادا ووقفا على عتبة البيت الذي كانا يعملان فيه وطلبا من الرجل ان يعيدهما الى حيث كانا حتى ولو بأجر اقلّ، ولا ابالغ اذا قلت بان احدهما بكى فاستجاب الرجل لهما وعاشا قطروزين حتى الموت، وحين سمعت بعد ذلك امثالا عن اناس ادمنوا نمطا من الحياة واصبحوا رهائن لهذا الادمان كنت اتذكر تلك الواقعة، لهذا لم يدهشني الفيلم السينمائي عن سجين اطلق سراحه فقرر ان يبني سجنا ويوظف فيه سجانين يتحكمون بحياته، وقد تبدو الحكاية محض خيال او اقرب الى تلك النكتة السوداء عن متسول محترف، اغتنى وبنى مسجدا وحين سئل عن الدافع لبناء مسجد بما تجمع لديه من التسول قال: كي اتسول فيه بمفردي ولا ينافسني أحد!
والتفسير الذي يقدمه علم النفس لهذه الظاهر هو ما يسمى الماسوشية، اي التلذذ بالالم والبحث عنه اذا لم يوجد بشكل طبيعي، وكل ما يكتبه علماء النفس والاجتماع عن حالات من هذا الطراز سبق لنا ان سمعنا عنه او شاهدناه في قرانا والمدن التي عشنا فيها طفولتنا، لكننا نتردد في روايته ونفضل ان ننسبه الى اخرين درءا لأي التباس او تأويل!
الخوف من الحرية والهروب منها مسألة قديمة ومن عمر الانسان، فالاسطورة اليونانية صورت الحرية صخرة ثقيلة، يحملها ويتورط بها الحرّ وهو يقطع نهرا، ولجان بول سارتر المهجوس والمهووس بالحرية الوجودية مسرحية عن هذه القضية استوحاها من الاسطورة.
واذا كان هناك بشر يرفضون الحرية ويختنقون بها ويهرمون من اعبائها، فان بالمقابل هناك بشر لا يطيقون قراءة سطر من كتاب، وحين يجدون من يقرأ لهم وعنهم ويمضغ لهم السطور ويضعها في افواههم يلفظونها، لانه ايضا ادمان.
الحرية ليست ملقاة على قارعة الطريق او هبة بالمجان، لهذا فان عدد الهاربين منها اضعاف مضاعفة لعدد المتورطين بحمل صخرتها، سواء كانوا يقطعون انهارا على طريق الاسطورة، او يقطعون مستنقعات على طريقة التاريخ، ولكي تكتمل المفارقة رويت ذات يوم حكاية القطاريز لصديق عربي فضحك وقال: ذكرتني بالمطاريز وحين سألته عنها قال انها نوع من الصقور الرخيصة تستخدم في الصيد، لكنها لا تستطيع الظفر بالفريسة، انها تطلق في الفضاء فقط من اجل تدويخها واتعابها، بعد ذلك يأتي دور الصقر الاصيل والباهظ الثمن الذي يحقق الانتصار.
فاية حرية تلك التي ناء بحملها الاحرار وهرب المطاريز والقطاريز منها؟؟
( الدستور )