فقر سياسي: هل لدينا حياة سياسية؟

يتردد في الآونة الأخيرة وصف الحياة السياسية العامة في الأردن بالضعف، على اعتبار أنه لم يتشكل لدينا مجتمع سياسي بالمعني التاريخي والعلمي خارج مؤسسات الدولة، يكفل وجود حد معقول من التفاعل والجدل المثمر، بالصراع أو التعاون، بين الموالاة والمعارضة والمجتمع المدني والمجتمع الأهلي والقوى السياسية والثقافية والاجتماعية، بما يوفر نوعا من التعدد والتنوع والتوازن والمساءلة العامة، ويصب كل ذلك بالتالي في مصلحة قوة الدولة. لا توجد لحظة سياسية خلال العقدين الماضيين شهدت ضعفا سياسيا في الحياة العامة كالضعف الذي نشهده هذه الأيام، والذي يحتاج الى اعتراف جماعي بأن الدولة هي التي تتحمل مسؤوليته (هذا الضعف) وتدفع ثمنه اليوم، وستدفع بقية الحساب إذا ما استمر تيار إضعاف الحياة السياسية هو المسيطر. تذهب البلاد إلى الانتخابات النيابية المبكرة وسط احتقان شعبي عارم، وضعف وفقر في أدوات الدولة للمناورة السياسية أو طرح البدائل والإجابة عن أسئلة الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بينما تستمر الحكومات في اختصار المشهد السياسي بلاعبين فقط،
هما: الحكومة والمعارضة الإسلامية؛ وهي وصفة تاريخية تُسأل عنها الدولة التي رعت هذه الثنائية، وغذتها في زمن الوصل والتحالف وفي زمن الجفاء والصراع. يحدث ذلك في الوقت الذي لا تبدو فيه الدولة قادرة على الخروج من أزماتها ولا وقف التدهور، ولا المعارضة التقليدية قادرة على تقديم إجابات وبدائل معقولة وقابلة للحياة، تخلق التفافا شعبيا حولها، وعمقا مجتمعيا يدافع عنها. مقابل ذلك، تم تفريغ المجتمع من الفعل السياسي الحقيقي، رغم الاستهلاك السياسي اليومي الهائل؛ فلا مجتمع مدنيا ملتزما ببرامج ذات مسؤولية مجتمعية واضحة، ولا مبادرات شعبية لكسر الجليد وتخفيف حدة الأزمات، ولا رؤى فكرية تخترق حالة الصمت و"الزعل" أو تبادل الشتائم، ولا مساهمات أكاديمية جادة ومستقلة تقول لنا أين نحن ذاهبون.
شكّل الحراك الشعبي الأردني، في المحافظات والعاصمة، فرصة ثمينة لتلوين الحياة السياسية. لكن هذه الفرصة يتم اختطافها حاليا، ولم يتم استثمارها من المنظور البنائي لقوة الدولة. ولعل عملية التهشيم والتهميش والتفتيت التي تعرض لها الحراك الشعبي خلال الأشهر القليلة الماضية، تبدو نتائجها واضحة هذه الأيام في مصير الانتخابات المقبلة، وخصائص نواب المجلس القادم، والصراع على القوائم الوطنية. إذ يبدو أن الحراك الشعبي مغيب تماما عن هذا المشهد، ما يضع اليد مجددا على القلب، ويطرح السؤال الكببر: هل سيحتمل البلد مرة أخرى إعادة إنتاج نسخة جديدة من مجلس النواب السادس عشر؟ مسألة ضعف الحياة السياسية العامة تتجاوز الحديث التقليدي عن ضعف الحياة الحزبية، وضعف ونوع المشاركة السياسية، إلى المنظور البنائي للدولة؛ فهي مسألة مصيرية في استكمال بناء الدولة. وهذا الفقر السياسي أخطر، في المحصلة، من فقر جيوب الناس وفقر خزائن الدول. تخطئ مؤسسات الدولة خطيئة كبيرة إذا ما استمرت في تفسيرها الحالي للمصلحة الوطنية باستمرار نخبها التقليدية باحتكار طرح البدائل والحلول ذاتها. وتخطئ إذا ما استمرت في تقسيم المجال العام (أي المساحة الحرة للتعبير والأفعال السياسية الممتدة بين المجتمع والدولة) بينها وبين القوى التقليدية ذاتها. وتخطئ مرة ثالثة إذا ما أصرت على تفسيرها التقليدي بأن قوة الدولة هي في إضعاف المجتمع السياسي خارجها.
( الغد )