وعد بلفور ما زال قائماً

وعد بلفور ليس مجرد ذكرى يتمّ تناولها على شكل رواية تاريخية أو مجرد حدث مضى وانتهى، ولكنّه يمثل مؤامرة دولية مستمرة، اشتركت في حياكتها مجموعة الدول الكبرى الاستعمارية التي تريد تأبيد سيطرتها على الوطن العربي، وإحكام قبضتها على ثرواته ومقدراته، والحيلولة دون وحدته واستعادة قوته وبناء حضارته؛ لأنّه يمثل أكبر تهديد مستقبلي للعالم الغربي الاستعماري وتقويض حضارته، حسب ما تنص عليه تصريحاتهم السياسية التي تصف تلك الحقبة من عمر الزمن التي أنتجت وثيقة "وعد بلفور".
تقول الباحثة "د.نهى خلف" في دراسة منشورة حول وعد بلفور، أنّ صياغة هذه الوثيقة تمّت بعناية فائقة قائمة على دراسة مستفيضة ومتأنية لكل كلمة فيها، بل لكل كلّ حرف على مدار سنتين، وقد تمّت الصياغة مع جميع الأطراف المعنية، التي تمثلت ببريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا وزعماء الحركة الصهيونية، ففي الثاني من تشرين الثاني عام 1917م وجّه اللورد "جميس آرثر بلفور" وزير خارجية بريطانيا كتاباً إلى روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية: "عزيزي اللورد روتشيلد، يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته التصريح التالي، الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهاينة، وقد عرض على الوزارة وأقرته: إنّ حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنّه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي، الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى، وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح".
فقد تمّ اختيار لفظ "وطن قومي" ليكون مصطلحاً غامضاً، يستطيع كل طرف أن يفهمه كما يشاء ويفسره حسب هواه، فبالنسبة للحركة الصهيونية رأت أنّ المصطلح يعني إقامة دولة يهودية في فلسطين، وللآخرين تفسيراتهم من أجل تمرير القرارات الدولية. كما تمّت الإشارة إلى العرب الفلسطينيين الذين كانوا يمثلون ما يزيد على 90 % من سكان فلسطين آنذاك أنّهم أقلية باستخدام لفظ "طوائف" كما نص التصريح بطريقة تضليلية حول حماية حقوق الطوائف الأخرى، ولكنّه تمّ الاقتصار على ذكر الحقوق المدنية والدينية، ولم يتمّ ذكر الحقوق السياسية، في حين تمّ النص على حقوق اليهود السياسية التي يتمتعون بها في البلدان الأخرى.
لقد أسهمت بريطانيا بالمشاركة مع الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا في تهيئة الظروف الدولية والسياسية التي تسمح بتأسيس الكيان اليهودي الصهيوني في فلسطين؛ ليكون قلعة استعمارية في قلب الوطن العربي، من أجل الحيلولة دون نشوء قوة عربية موحدة على ضفاف المتوسط يهدد أوروبا والحضارة الغربية، ولذلك عملوا على رعاية هذا الكيان وحمايته ودعمه، كما عملوا في الوقت نفسه على تمزيق الجسم العربي، وتفريقه وايجاد الحدود الفاصلة بين أقطاره وشعوبه، وإثارة النعرات التفريقية والنزاعات الحدودية والعصبيات الدينية والمذهبية، ومساندة حكم الأقليات، والعمل على إدامة الضعف الاقتصادي والتخلف العلمي والاستبداد السياسي. لقد تعاملت كثير من الأنظمة العربية والقوى السياسية في المنطقة بالإقرار والاعتراف بوعد بلفور ونتائجه، وتعاملوا مع الكيان الصهيوني إمّا بالاعتراف الرسمي أو الاعتراف السياسي والثقافي، وبنوا مستقبلهم السياسي على هذه النظرية، وبعضهم أراد أن يجعل التكيف مع واقع الاحتلال صيغة وطنية وقطرية مستقلة.
ينبغي التنبيه إلى أنّ وعد بلفور يؤثر في مستقبل الأردن بالدرجة نفسها التي يؤثر فيها في فلسطين، ولذلك فهذه المسألة تحتاج إلى ذكاء سياسي مصحوب ببعد النظر، ففي الوقت الذي يجب أن نقف فيه جميعاً ضد المخطط الصهيوني الذي يرتكز على جعل الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين المهجرين من وطنهم وديارهم، يجب في الوقت نفسه أن لا ننقل الصراع مع المحتل إلى صراع داخلي بين مكونات الشعب الأردني، بمعنى أكثر وضوحاً، يجب أن نعمل جميعاً على وجود وطن أردني بدولة قوية وهوية وطنية واضحة؛ ليكون الأردن بوابة الوطن العربي الحصينة في مواجهة الخطر الصهيوني الكبير، وعدم الانجرار إلى معارك صغيرة تخدم الكيان الصهيوني وحلفاءه.
( العرب اليوم )