قفزة أخرى يائسة .. وفي المجهول !

يعتقد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أن الفرصة مناسبة للتأثير على “اتجاهات” الرأي العام الإسرائيلي قبل أقل من ثلاثة أشهر على الانتخابات المبكرة في إسرائيل، وان ما أدلى به من تصريحات للتلفزيون الإسرائيلي، تضمنت “إعادة تعريف” لفلسطين، وتحويل “عودة اللاجئين” من حق سياسي / إنساني تكفله الشرعية الدولية ، إلى “حق سياحي”، سيساعد في تمكن “تيار الوسط” في الدولة العربية من محاصرة اتجاهات الغلو والتطرف في المجتمع الإسرائيلي، ممثلة أساساً بتحالف نتنياهو – ليبرمان، ومن خلفهما مروحة واسعة من الأحزاب والشخصيات والمؤسسات القومية والدينية المتطرفة.
ولا نستبعد أن يتوالى إطلاق مثل هذه المواقف والتصريحات، التي تنطوي على تنازلات أجمع المراقبون على وصفها بـ”المجانية” و”النادرة” و”الرمزية”، مع اشتداد حمى المعركة الانتخابية في إسرائيل، وتواتر التقارير عن “عودة كاديما” وتيار الوسط ويسار الوسط إلى الخريطة السياسية - الحزبية في إسرائيل، وستستحضر التصريحات المقبلة، مثلما استحضرت التصريحات الحالية، مواقف سابقة للرئيس ترفض “الانتفاضة الثالثة” وتتعهد بمنع اندلاعها.
مثل هذه المقاربة على ما فيها من تنازلات مجانية خطيرة، لم تفعل فعلها، ولن تفعل فعلها...ولقد سبق وأن جرّب الفلسطينيون وغيرهم، مقاربات مماثلة، أقله منذ إطلاق مبادرة بيروت العربية عام 2002، وكانت نتيجتها الوحيدة: استمرار “انزياح” المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين والتطرف اليميني، وتنامي نفوذ “لوبي الاستيطان” ومظاهر التطرف الديني والقومي في الدولة والمجتمع سواء بسواء.
والمؤسف حقاً، أن هذه المواقف والتصريحات، وبدل أن تُعمق الانقسامات الإسرائيلية وتصيب المجتمع العبري بالخلل والاختلال، عمقت الانقسامات الفلسطينية القديمة، وأضافت إليها أسباباً جديدة للاختلاف والاصطراع...في وقت لم تبرأ فيه فتح بعد، من جروح انقساماتها على ذاتها في الانتخابات البلدية الأخيرة، وتتعمق فيه الفجوة بين حكومة سلام فياض وأوساط نافذة في فتح والسلطة والمنظمة، وفي وقت بدا فيه أن خصوم فتح في غزة، يسجلون تقدماً على طريق الانضواء في محور قطري – مصري – تركي، لا يرى للرئيس عباس من وظيفة سوى “مرافقة” زعماء هذه الدول في زيارتهم إلى القطاع وحكومة حماس.
بصرف النظر عن الجدل “السياسي” و”الفقهي” الذي سبق وصاحب القرار الفلسطيني بالتوجه إلى الأمم المتحدة، فقد نجح الرئيس عباس في التصرف على نحو مستقل، مكّنه من استعادة بعض من شعبيته في الضفة الغربية وغيرها، وسجل الرئيس نقطة إضافية لصالحه، حين قرر “التمرد على النصائح” الأمريكية والعربية، والمشاركة في قمة دول عدم الانحياز في طهران..لكن هذه المكتسبات المتواضعة، تبددت بعد التصريحات الأخيرة، التي تركت أقرب الناس للرئيس من فتح والسلطة والمنظمة، في زاوية ضيقة، ومكنت “مجادلي” الرئيس على الضفة الثانية في معادلة الانقسام الفلسطيني من الانتقال من “حالة الدفاع والتبرير” التي أملتها عليهم تحالفاتهم القطرية والمصرية، إلى “وضعية الهجوم” على “ثقافة رئيس لا يمثل إلا نفسه”.
إن أخشى ما يخشاه المراقب، أن يرتد قرار المنظمة بالذهاب إلى الأمم المتحدة، بأوخم العواقب على مواقف المنظمة والسلطة والرئاسة وفتح...ولقد بدأنا نسمع لمواقف وتصريحات تربط استئناف المفاوضات بقبول فلسطين “دولة غير عضو في الأمم المتحدة”، بعد أن كان استئنافها مشروطاً بوقف الاستيطان والالتزام بخط الرابع من حزيران كحد فاصلٍ في “حل الدولتين”...وها نحن نستمع اليوم إلى مواقف تستبدل الحلول السياسية لقضية اللاجئين بحلول سياحية...فهل تستحق “وضعية الدولة غير العضو” كل هذه التنازلات التي تعرض بالجملة والمفرق، ومن دون مفاوضات؟..ثم ماذا أبقينا للتفاوض مع سلطات الاحتلال والعدوان، إذا كنا سنذهب إلى موائده من دون وقف الاستيطان ومن دون التزام بخط حزيران، ومن دون استمساك بحق عودة اللاجئين، ومن دون تلويح بأية أوراق قوة من أي نوع، بما في ذلك “سلاح الانتفاضة” التي لم تكن يوماً قرين السلاح والسلاح والعسكرة؟.
إن أخشى ما نخشاه أن يكون الحصار على السلطة والتهديد بعزلها والتلويح باستهداف بعض رموزها، في مقابل الانفتاح على حماس وبدء موسم “الحجيج” إلى قطاع غزة، قد أربك القيادة الفلسطينية، ودفع بالبعض منها للهروب إلى الأمام،” وتقديم المزيد من “أوراق الاعتماد”، كأن تلجأ السلطة لعرض المزيد من التنازلات لـ”فكفكة” عقدة انحباس عملية السلام، ومن على قاعدة أن ما لا يتحقق ببعض التنازلات، قد يتحقق بالمزيد منها، فتكون النتيجة وبالاً على السلطة والمنظمة والشعب وفتح والحقوق والمشروع الوطني الفلسطيني برمته.
( الدستور )