حفل عبدون : من سرق اخلاقنا ايضا؟!

نخطىء حين نتصور بأن ما حدث في حفل (عبدون) حالة جديدة ومفاجئة،ونخطىء ايضا حين نتوجه بالادانة والرفض لهؤلاء الشباب (الضحايا) الذين رأينا صورهم وافعالهم الخادشة للحياء العام في بعض وسائل اعلامنا ،ونخطىء ثالثا حين نقرأ الحدث وما تبعه من ردود افعال غاضبة واخرى دافئة بمعزل عن سياقاتنا السياسية وما فعلناه بانفسنا على مدى الاعوام السابقة.
هؤلاء الشباب الذين سبحوا ضد تيار مجتمعنا هم جزء منه وافراز لما يتغلغل داخله من تناقضات، واذا كان ادانة افعالهم مشروعة ومفهومة فان ادانة الذين اوصلوهم الى هذا الانحراف مطلوبة ايضا،ولو قيض لاحدنا ان يحفر قليلا في تربة مجتمعتنا لاكتشف على الفور ما اصابها من تلوث،ومن الطبيعي ان نسأل هنا : من هم الذين وضعوا كل هذه الجراثيم في محيطنا الاجتماعي،ومن هم الذين سرقوا اخلاقنا بعد ان سرقوا اموالنا واعمارنا؟ من اولى بالغضب والادانة والمحاسبة :هؤلاء الضحايا الذين خرجوا كالشياطين يحتفلون بالهولوين وعيد الموت والقديسين ام مجتمعنا الذين تركهم اسرى لهذه الافكار الغريبة..اعني هنا مؤسساتنا الثقافية والدينية التي انشغلت عن مهماتها الاساسية ،وجامعاتنا الى انعزلت عن محيطها الاجتماعي ،واسرنا التي وقعت في فخ التقليد واللهو وانجرت خلف قيم وافدة وفهمت التحضر والتقدم وفق مقاسات مشوهة استقتها من خارج فطرتها وقيمها واعرافها وتجربتها الانسانية؟
اخشى ما اخشاه ان يكون الذين اندفعوا بحسن نية لمهاجمة الحفل لا يعرفون ان مجتمعنا قد تغير كثيرا ،وان هؤلاء الذين شاهدناهم في عبدون هم وحدهم من ضل طريق الصواب، فيما الحقيقة ان طريق الانحراف قد امتدت كثيرا وجرف كثيرين غيرهم بعضهم اشهر الحاده وبعضهم خرج للمطالبة بحقه في ممارسة الرذيلة وبعضهم اخذته المخدرات الى مستنقع الجريمة وبعضهم استقال من انتمائه لبلده ،وبعضهم اختار الانتحار بعد ان ادركه اليأس,,كل هؤلاء وغيرهم كانوا نتيجة لحالة من التغريب التي اصابت مجتمعنا ..وهم ايضا افراز طبيعي لجناية الاستبداد والفساد..فالذين سرقوا اموالنا هم انفسم الذين سرقوا اخلاقنا ،والذين عبثوا في مقدرات بلدنا واوصلوه الى الجدار هم ذاتهم الذين عبثوا بنواميسنا القيمية وحولوا تديننا الفطري الى نمط استهلاكي مغشوش ومفرغ من روح الدين ومقاصده العظيمة.
لا يخطر في بالي ابدا ان ادافع عن هؤلاء الشباب-معاذ الله- فاقل ما يمكن ان يقال عنهم بأنهم اخطأوا الطريق،لكن الم نخطىء ايضا حين سكتنا فيما مضى على (المقدمات)التي اوصلتهم الى هذه النتيجة،الم يتواطىء البعض على تمرير ما يلزم من افكار وتشريعات وملاذات آمنة لهم،الم نقصر في فتح حوارات معهم تأخذ بيدهم الى طريق النور:اين كان علماؤنا طيلة هذا الوقت الذي تصاعدت فيه دعوات الانحلال وممارسات الفاحشة،اين كانت منابرنا ومؤسساتنا الدينية ،اين كان المسؤولون في بلادنا وعشرات الشوارع التي سميت باسماء مقدسة تزدحم بالملاهي الليلية ودور اللهو ؟
لقد قلت فيما مضى ان اصلاح الاخلاق في بلادنا يجب ان يكون من اولى الاولويات،اذْ لا يمكن ان نتصور بأن اصلاح السياسة او الاقتصاد او غيرهما سيقدر له ان ينجز بدون افراد “صالحين” في ذاتهم ، وبدون مناخات اجتماعية “صالحة” وبدون ضمائر حية وصالحة ، تستطيع ان تتحرك وتفرض نماذجها واخلاقها وسلوكها ، الى جانب “تشريعات” رادعة وحازمة تقاوم الانحلال وتعاقب “تجار” الفاحشة وأصحاب “التسفل” الاخلاقي ومروجي الرذيلة.
صحيح ان الله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، بمعنى ان الحكومة - أية حكومة - مسؤولة عن هذه المسألة ، من خلال تجفيف منابع الانحراف والغلو في الفساد بما يلزم من تشريعات وعقوبات ومن ايجاد مناخات سليمة تجنب الناس الوقوع فيها ، ولكن الصحيح ايضاً ان الناس (النخب الدعوية والثقافية والناشطين في مجالات حقوق الانسان وحقوق المرأة والطفل.. الخ) مسؤولون ايضاً عن هذه التراجعات التي اصابت قيمنا واخلاقنا ومسؤولون ايضا عن اصلاحها .
باختصار،ما رأيناه في حفل عبدون هو جزء من صورة مجتمعنا التي ساهم بعضنا في رسمها،ومع ان الصورة الكاملة لمجتمعنا ما تزال -بفضل الله-نقية وخالية من هذا التشوه والتسفل الا ان ما نخشاه هو ان يمتد هذا العفن الاخلاقي الى باقي الصورة فنقع عندئذ في عموم البلوى ونفقد القدرة على تحصين ابنائنا من الوقوع في مصيدة الخطأ والخطيئة ..لا قدر الله
( الدستور )