أخذ صوت النقاش يعلو ويزداد حدة في مجتمعات الربيع العربي، مع ازدياد انتشار التيارات السلفية، وبروزها في المشهد العام عنوة، وبميل واضح نحو العنف في تونس وليبيا ومصر وسورية واليمن وغيرها، وسط مؤشرات أولية على تعثر مشروع الإسلام السياسي في التأسيس لبناء دولة كل الناس.
يحدث ذلك وسط حالة من الخجل الإعلامي والمداراة تمارسها منابر إعلامية عربية عديدة؛ إذ تتراجع أهمية التحولات التي تجري في ليبيا، أو طبيعة القوى المتصارعة على الساحة السورية، في التغطية الإعلامية، كما هو الحال أيضا في غياب الرصد والمتابعة الإعلاميين لحجم المال السياسي الذي يتدفق على تيارات دينية متشددة بعينها.
إن لعبة المتشدد والأكثر تشددا، كما تبدو في مستقبل العلاقة بين الإخوان المسلمين والتيارات السلفية، قد تكون أحد الفخاخ التي تُدفع هذه التيارات نحوها، لتجد نفسها في لحظة ما في مواجهة مع المجتمع، كما برز في دعوة الإخوان إلى دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، ثم رفض السلفيين لتلك الدعوة، وصولاً إلى تراجع الجميع عنها. والتساؤل الحرج الذي يطرح من خلفية الإيمان بحق تيارات الإسلام السياسي في الوصول إلى السلطة عبر الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، يدور حول ما قد تفرضه هذه التيارات من تغيير اجتماعي وثقافي قسري قد يضحي بالديمقراطية ذاتها، تحت مبرر القاعدة التراثية "دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة"، والتي استهلكت جل فعاليات هذه التيارات على مدى أكثر من نصف قرن، وهي المرحلة التي حضّرت فيها هذه التيارات خميرتها التاريخية.
إن مصدر التهديد الأكثر خطورة يتمثل في التوترات الطائفية، واحتمالات تحولها إلى عنف دام عابر للأديان وداخل الأديان نفسها، وآخر تعبيراتها القوية الأحداث الطائفية المتتالية، والتي تعمل ببطء وبشكل صادم على ضرب السلم الأهلي والتكامل السياسي والاندماج الاجتماعي في العمق. والخطير فيها هو بروز دور الحركات السلفية إلى واجهة الصراعات الطائفية، استمراراً لمسار معقد من التوترات الطائفية التي تشهدها بشكل عنيف ست دول عربية على الأقل، وتعبر عن خبرة قاسية في إدارة الاندماج الاجتماعي؛ الأمر الذي يدعو إلى إعادة النظر في مقولة موت أسامة بن لادن وتنظيمه في ميدان التحرير ووسط الثورات الحاشدة.
لم توفق المجتمعات العربية، بكل مكوناتها السياسية والثقافية، وفي مقدمتها تيارات الإسلام السياسي، في إنتاج "رأس مال اجتماعي" يحمي القيم المدنية المشتركة، ويمنع المواجهة بين المجتمع والدولة مهما تغيرت اتجاهات السلطة السياسية ومرجعيتها الفكرية؛ أي التوافق على القيم الكبرى التي تشكل الأرض الخصبة للإصلاح في القيم والمعاني والإرادة المشتركة والتمأسس، أي تبلور "الجماعة الوطنية المدنية" التي تعمق استيعاب المجتمع للإصلاح، وتبني الثقة داخل المجتمع، وتحرص دائما على إبقاء خطابات الإصلاح والتنمية السياسية في دائرة الحكمة والعقلانية واستشعار المصالح الوطنية بحساسية واضحة.

إن الفضيلة التاريخية الكبرى التي قد تحسب لتيارات الإسلام السياسي التي تتابع الوصول إلى السلطة، والتي قد تؤهلها إلى تجاوز أزمة المواجهة، تتمثل في فتح المجال العام لنمو وازدهار رأس مال اجتماعي يحمي القيم المدنية المشتركة للمجتمع. هذا المخرج لن يأتي بين ليلة وضحاها، لكنه يحتاج إلى إعلان نوايا تاريخي منذ هذه اللحظة. وهذا الأمر صعب جدا، ولكنه غير مستحيل.

( الغد )