بين الشفقة والحسد!!

استوقفني في محاضرة السفير ربحي حلوم التي قرأت عنها ولم أحضرها أمر قد يبدو بعيداً عن السياسة وعابراً، هو انه عندما نظر الى ساعته ليعرف الوقت قال.. انها أوميجا ثمينة فهل من حق الفلسطيني أن يلبسها؟
قبل رحيل الصديق محمود درويش بأعوام أجري معه لقاء صحفي، وفوجئ بمن يجري اللقاء ينظر الى ساعة يده الأنيقة ثم يسأله هل هي كارتيير؟
قال ذلك على سبيل الاستنكار, فالفلسطيني يجب أن يلتزم بالصورة التقليدية التي رسمها له الفنان مصطفى الحلاج.. يحمل صرة او بقجة ويتوكأ على عصا وهو محني الظهر، وقد أعادني هذا الموقف على الفور الى ما كتبه «جان بول سارتر» في أربعينيات القرن الماضي وخلال الاحتلال النازي لبلاده.. قال ان بعض الامريكيين الذين وصلوا الى باريس أصابتهم الصدمة عندما رأوا الفرنسيين يرتدون سترات أنيقة ويدخنون الغليون والسيجار في المقاهي، فقد توقعوا أن يروا متسولين يرتدون اسمالاً بالية، وقد تضاعفت دهشتهم عندما رأوا بائع كتب فرنسيا على شاطئ نهر السين وهو بكامل أناقته وصوته جهوري، وينادي المارة ليقرأوا فولتير ويولير وروسو ومونتسكيو وسائر السلالة الخالدة.
وأذكر ان كاتبة مصرية التقيتها في بغداد في ثمانينيات القرن الماضي قالت لي إنها فوجئت بمظهري.. مثلما فوجئت من قبل عندما التقت محمود درويش ومريد البرغوثي.
فنحن لم نكن في تصورها بشر كسائر البشر نحلق ذقوننا لنستقبل يوماً جديداً، ونستحم ونأخذ كامل زينتنا للقاء الموت.
ولو التقت غسان كنفاني لقررت ألا تقرأ ما يكتب لأنه وسيم وفارع القامة وترشح رائحة صنوبرية من قميصه الأنيق، ما الحكاية؟!
ولماذا يصر بعض الناس على الشماتة بالضحية عندما تكون خرساء وأشبه بالجيفة التي تزحف كالسحلفاة العجوز؟!
ان المسافة بين الشفقة والحسد لا يعرفها الا من قرروا الخروج من الشفقة ومقارعة الشروط التي تحاصرهم، وما يغيب عن هؤلاء أن غسان ايضاً كان يرتدي في معصمه ساعة أنيقة لكنها وجدت على سطح عمارة في بيروت بعد أن تحول الى أشلاء، فالديناميت الذي وضع في سيارته كان يكفي كتيبة من الكتّاب ذوي الأسمال والباحثين عن الشفقة!
وقد يكون السبب بتفشي هذه الثقافة العوراء من كتبوا عن المقاومة عندما ضيقوها حتى أصبحت بقطر فوهة مسدس، ونسوا أن الإقبال على الحياة بكل عنفوانها مقاومة، والدفاع عن حق الإنسان في الحب مقاومة وزراعة الورد على تخوم الصحراء مقاومة، والكتابة الآسرة ذات الألق الأبدي هي ذروة المقاومة.
اعترف بأنني أسعد بمشهد عراقي منتصب القامة لم يصدق ما قاله رامسفيلد وشوارتسكوف ورايس والبوشان الأب والابن.
كما سعدنا بالجزائري الذي جعل أشجار الصفصاف في باريس تبكي وترقص على قصائده، وباللبناني الذي لم تزده الحرب الأهلية إلا اقبالاً على الحياة وتوهجاً رغم الظروف وليس بفضلها!
فهل المطلوب بحسب هذه السايكولوجيا أن تعتذر الضحية عن بسالتها وأناقتها وصهيلها رغم أن الدمع يقطر منها.
لقد قال أجدادنا العرب.. «الصيت ولا الغنى»، فهل من حق أحفادهم أن يقولوا الحسد لا الشفقة؟؟
( الدستور )