الواقعة التي نحن بصددها ليست واحدة من كوابيس فرانز كافكا الشهيرة، ولا مشهداً غرائبياً من رواية كتبها غابرييل غارسيا ماركيز في "مئة عام من العزلة"، بل هي ملحمة عنترية مدونة بالصوت والصورة، جرت من فصل واحد أمام ساحة الجندي المجهول في غزة، حين انهال شيوخ شباب ومجاهدات مدججات، بالضرب والتنكيل على اعتصام نسوي سلمي، قوامه مناضلات وأمهات، بعضهن أخوات معتقلين، وبعضهن الآخر زوجات وبنات شهداء، بأعقاب البنادق وعصيّ المكانس، عقاباّ لهن على دعوة مفعمة بحسن النية لإنهاء الانقسام.
ومع أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها فض فعالية مدنية بالقوة الغاشمة، والاعتداء بالضرب المبرح على رؤوس أناس منادين بالوحدة الوطنية في القطاع "المحرر"، أو حتى مشاركين في عرس تخللته موسيقى "ماجنة"، أو توبيخ خاطبين ساهرين على شاطئ البحر بشبهة الاختلاط ومنع الرذيلة، إلا أنها السابقة غير المسبوقة في الأعراف الوطنية والتقاليد الاجتماعية، التي يجرؤ فيها ولد شقي أو رجل أمن يعرف أن الجنة تحت أقدام الأمهات، على مقارفة مثل هذا الفعل الآثم، واعتماد هذا السلوك المشين مع النساء الفاضلات.
لقد بدت لي هذه الواقعة التي جرت محض صدفة يوم الانتخابات الرئاسية الأميركية، على أنها أكثر من حادثة قمع تقليدية اعتادت على ارتكابها قوة الأمر الواقع منذ الانقلاب الدامي في غزة، بل وأشد وطأة على الضمير من كل فعل شاذ سبق أن بررته القوى الظلامية بذريعة الحفاظ على الأمن، ومنع ظواهر الانحلال الاجتماعي، وغير ذلك من الدفوعات المتهافتة، تسويغاً للقطيعة وتأبيداً للانقسام، لاسيما وأن الضحية هنا لم يكن ناشطاً سياسياً مشكوكاً في نواياه الخبيثة، أو تجمعاً شبابياً يثير الهواجس، وإنما نساءٌ ذوات أسماء محترمة وبنات عائلات كريمة، ونقابيات في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية.
كان التساؤل الذي داهمني وأنا أشاهد مقطع الفيديو المبثوث عن تلك الواقعة المهينة: من أين أتت مثل هذه الثقافة الخارجة عن ناموس احترام الأبناء للأمهات، وقدس أقداس الروابط التي يحذر فيها قول "أف" للمرضعات؟ هل هذا تنويع على مقام التشبيح الذائع في الشام هذه الأيام؟ وان لم يكن كذلك، فما معنى كل هذا التشابه في الأفعال، مثل مصادرة الهواتف الجوالة من النساء المضروبات، والتفتيش في حقائبهن عن مادة مصورة، وتحقيرهن بعصي المكانس، وصفعهن على الوجوه، وكيل الشتائم النابية والكلام البذيء؛ إن لم يكن ذلك كله مظهراً فاشياً شاع مثله الكثير في بلد الممانعة، جرى استنساخه في غزة بصورة منقحة؟
والحق أن هذه "المرجلة" من مقاومين لا يقاومون (متى كانت آخر عملية استشهادية؟)، وهذا التنمر على حرائر غزيات من جانب شوفينيين يتصرفون تصرف الخائف على مال منهوب، كان بالغ الوقع على النفس، عصيا على الفهم والإدراك، خصوصاً وأنه تم على أيدٍ متوضئة، وألسنة لا تنقطع عن ذكر الله، تتلو آيات الذكر الحكيم وتسبح بحمده ليل نهار، فيما السلوك المماثل من قبل الشبيحة يصدر عن قوم عصاةٍ غلاظ، لا رادع عندهم، ولا تدين ولا ادعاء بإيمان، فكيف إذن يجري التمثل بعبدة بشارالأسد، ومحاكاة بعض من أفعالهم ضد الحرائر السوريات؟
ولعل الأسئلة التي تستحق النقاش في معرض التنديد بمثل هذه الفعلة الحمساوية السوداء هي: ما قيمة الحرية في الوطن إذا كان الإنسان فيه مهاناً؟ وهل هذا هو النموذج في الإمارة التي يبشر بها هؤلاء؟ وهل الدين معاملة حسنة أم مجرد خطبة منبر ووعظ وكلام في كلام؟ وهل الدعوة إلى إنهاء الانقسام تهمة تستحق العقاب، بما في ذلك نزع الحجاب عن رؤوس النساء المحتشمات؟ وهل هؤلاء الأشقياء هم ورثة رسالة المجاهدين الأبطال ومناقبية الشهداء الأبرار مثل عبدالعزيز الرنتيسي ويحيى عياش؟ وكيف لنا أن نصدق بعد اليوم خطابهم القائل: إنها لله.. إنها لله؟