الأسلمة والتوثين!!

المعرفة السياحية وحدها بمصر وتـَشـَّكـُل وجدانها هي ما يتيح لأي مراقب عن بُعد ان يصدق بان المجتمع قد انقسم الى علمانيين ومتدينيين.
لكن الحقيقة غير ذلك تماما، فالمصريون سواء كانوا مسلمين او اقباطا متدينون بشكل او باخر حتى الماركسيون سرعان ما يتضح التدين لديهم اذا تجاوز السجال ما هو نظري. لهذا من حق المصريين ان يستغربوا مطالبة تيارات معينة بأسلمتهم وكأنهم وثنيون، فمبادئ الشريعة الاسلامية مبثوثة في نسيج وجدان وذاكرة وثقافة، والتعامل مع مجتمع من اكثر المجتمعات تدينا على انه ليس كذلك، او مشكوك في عقيدته لا بد ان يثير حفيظته ويخلق لديه ردود افعال تستنكر ما يتصور انه اتهام باطل.
ومن عاشوا في مصر لا بد انهم لاحظوا ما اعنيه بالمجتمع المتدين، فثمة تعبير مباشر عن هذا الوجدان العقائدي يشترك فيه احمد زويل العالم الحائز على جائزة نوبل مع عجوز امي في قرية نائية.
ويضاعف من استنكار المصريين لتهمة التوثين حتى لن تكن معلنة ومباشرة تلك الفوبيا التي استوطنت ذاكرة الكثير منهم، والتي كان سببها جماعة التكفير والهجرة، وتهمة شرعيتها السياسية والدينية من سيد قطب بعد ان تعرض هو وجماعته للتعذيب في السجون وانتهى الامر باعدامه، فما قاله قطب هو ان من يعذب مسلما كما حدث له ولسواه في السجون ليس مسلما، رغم ان مؤسس حزب الاخوان حسن البنا قال ذات يوم عمن يمارسون الاغتيال بانهم ليسوا اخوانا وليسوا مسلمين وان كان الرجل ذاته قد تعرض لاغتيال بعد الاحداث العنيفة التي صاحبت واعقبت اغتيال النقراشي باشا، الذي تولى حلّ الجماعة في نهايات العهد الفاروقي وقبل ثورة يوليو.
ما يخشاه المصريون الذين شاركوا بمختلف الاحزاب والتيارات والشرائح في الحراك الذي اسقط نظام مبارك هو احتكار طرف او فصيل سياسي بالسلطة.
لان ذلك ان حدث سيوفر اسبابا موضوعية كافية لحراك مضاد.
لقد دار سجال واسع في مصر قبل اخلاء المجلس العسكري مقاعد السلطة لرئيس منتخب حول ما سمي العسكرة والتديين، وكأن المسألة كلها اختصرت الى هذه الثنائية، ثم دخل السجال بمزيد من التوتر الى ثنائية اخرى هي التمدن والتدين اي الدولة المدنية والدولة الدينية، واخيرا اصبح مصطلح اخونة الدولة المصرية هو الاكثر تداولا في الاعلام والحوارات المتلفزة.
لقد جرب الاخوان في مصر الاقصاء والحظر والسجون، لهذا فهم مطالبون الان بحذف كل مفردات هذا القاموس الاسود، هذا اذا أرادوا الرهان على انتخابات قادمة خصوصا بعد ان نشرت استطلاعات حول تناقص في شعبيتهم.
ان مصر ليست وثنية بمسلميها واقباطها وليست بانتظار فتح جديد ففيها من المساجد والكنائس ما يشهد على تدين اهلها وفيها من الاحتكام الشعبي لمبادئ الدين والشريعة حتى في حياتهم اليومية ما يحول موضوعيا دون اتهامهم بالكفر.
اما المثير بالفعل فهو ان مجتمعا يعاني من تحالف بين الفقر والامية والتلوث والانفلاع الامني والخوف من المستقبل لديه ما يستحق ان يتصدر قائمة اولوياته كي يعبر الى غد آمن.
اما اذا كان يناير سيأكل ابناءه فتلك حكاية اخرى لها مقام اخر!
( الدستور )