خواطر على هامش «الربيع العربي»

في الخطاب الشعبي الدارج، جرى ويجري تصنيف الشعوب العربية إلى فئتين، الأولى وتضم القساة والغلاظ وسكان الجبال والقبائل، وهنا كانت الإشارات تتجه دوماً إلى الجزائر والعراق واليمن، بوصفها المجتمعات الأكثر تجسيداً لهذه الفئة...أما الفئة الثانية، فتضم المجتمعات الأكثر “نعومة” و”مدنية” و”لين معشر” و”تحضراً” إن شئت، وهنا تصدرت سوريا ولبنان دوماً قائمة أعضاء هذا النادي من الدول والمجتمعات العربية...ولطالما جرى التعبير بصور مختلفة وتوصيفات أكثر عمقاً عن هذه التباينات على أية حال.
بسقوط نظام صدام حسين، وقبله، كان “الخطاب الشعبي الدارج” يستحضر “الحجاج” و”أهل الشقاق والنفاق” و”الرؤوس التي أينعت وحان قطافها” لوصف العلاقة “المُثلى” أو بالأحرى، العلاقة “الوحيدة الممكنة”، بين الحاكم والمحكوم في بلاد الرافدين، وعندما دخل العراق في حرب أهلية مفتوحة، وفقد مئات الألوف من أبنائه بين قتيل وجريح، ظهر ما يعزز هذه النظرة والنظرية...وكذا الحال في الجزائر التي تفخر ونفخر معها بتقديم شعبها أكثر من مليون شهيد على مذبح الحرية والاستقلال والكرامة، مع أن كثيرين يشيرون إلى أن نسبة “وازنة” من هؤلاء سقطوا ضحايا العنف المحلي بين الأطراف الجزائرية المتنافسة والمصطرعة، وبعد اندلاع الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الفائت، وسقوط أكثر من 150 ألف قتيل إضافي، عادت التصنيفات ذاتها، لتطبع المجتمع والشعب الجزائريين بصورة نمطية عنه.
اليمن كان خروجاً عن مألوف هذا الخطاب وتلك التصنيفات..”موطن العرب الأول” الذي كنا نخشى أن تستبدل أنهاره الجافة دماء أبنائه بمياهها الشحيحة ، دشّن واحدة من أنظف الثورات وأقلها دموية، برغم استفزاز النظام وتعمده جر مواطنيه إلى أتون المواجهة العسكرية، وبرغم توفر اليمنيين على أكثر من 60 مليون قطعة سلاح وفقاً لأكثر التقديرات رواجاً وتحفظاً...وبرغم الطابع القبلي والانقسام المذهبي والجهوي العميق الذي يضرب في طول البلاد وعرضها..لقد أجبرنا اليمن على إعادة النظر في “شائع” النظرية والتصنيف.
اللبنانيون الذين اختصر محمود درويش عاصمة ملكهم السعيد بثلاثة حروف: بحر وحرب، حبر وربح، احتلوا صدارة قائمة “المجتمعات الناعمة”، واستمدوا صورتهم من السياحة والبحر والتجارة والمصارف، لكن حرب لبنان الأهلية التي استمرت 15 عاماً وحصدت ما لا يقل عن 150 ألف قتيل، غيّرت الصورة النمطية عن لبنان تماماً..إلى أن جاءت المقاومة اللبنانية، التي برغم تأخرها عن شقيقتها الفلسطينية، “أتت بما لم يستطعه الأوائل”، في مقارعة إسرائيل وتأديبها، لتقضي مرة واحدة وإلى الأبد، على تلك الصورة النمطية عن اللبنانيين واللبنانيات.
الآن، تتحول سوريا الدولة والمجتمع، إلى ميدان اختبار جديد..الشعب السوري المعروف بعروبيته ورفضه للمستعمر والضيم، أقنع ملايين الزائرين لسوريا بحسن وفادته وطيب معشره وسلاسة التعامل معه، واستلب أفئدة عشرات الملايين من العرب، من خلال ما عرض عليهم من أعمال درامية سورية، جعلت كثيرين في هذه الأمة، يتمنون زيارة سوريا، والتعرف على أنماط حياة أبنائها وتذوق المطبخ السوري والاقتران بجميلات دمشق وحلب إن أمكنهم لذلك سبيلا...اليوم تبدو سوريا أيضاً، في طريقها إلى صنع المفاجأة التالية...حرب سوريا الأهلية تتكشف عن “مكنونات” صادمة في نفسية وشخصية وعقلية الكثيرين من أبنائها، الذين لا نعرف كيف اختزنوا كل هذا العنف، ومن أين جاءوا به، وسنحتاج إلى ما هو أبعد من “الاتهامات المعلبة والجاهزة” التي يتقاذفها النظام والمعارضة، لإدراك كنه هذه الظاهرة وكيفية تشكلها ومآلاتها.
ولا ندري في أية وجهة ستسير بقية المجتمعات العربية، التي لم تختبر شعوبها بعد، العيش بلا دولة، أو في ظل دول ضعيفة وأنظمة آيلة للسقوط..لا ندري أي النماذج التغيرية التي ستسلكها وتستلهمها وهي في طريقها لإنجاز الانتقال إلى الديمقراطية، وهي طريق إجبارية، لا يبدو أن ثمة مجتمع عربي سيكون بمقدوره تفاديها.
من بين مختلف الحروب بعامة، والأهلية منها على نحو الخصوص، فإن حروب الطوائف والمذاهب الدينية، هي أشدها ضراوة وأكثرها وحشية وهمجية على الإطلاق..هنا يتخلى الإنسان عن إنسانيته سريعاً، ويخلع رداء “الحضارة والمدنية” بأسرع مما لبسه...هنا تُختصر في أيام وأسابيع مسيرة ألوف السنين قطعها الإنسان المعاصر، منذ أن غادر أجداده الأوائل الكهف والغابة.
( الدستور )