إعادة تعريف الأزمة
مخطئ من يظن اليوم أن الأزمة اقتصادية، بل هي سياسية بامتياز. والحل الناجع لها أيضا لن يكون إلا سياسيا من عيار ثقيل؛ فالمضي بقرار تعويم أسعار المحروقات لن يجدي، وكذلك العودة عنه. ما حدث عقب قرار تعويم أسعار المحروقات وخروج المحتجين إلى الشوارع رفضا له، يجب أن يجعل الدولة تعيد تعريف الأزمة التي تعاني منها، لتعترف أنها لم تعد أزمة مالية (هلكتنا الحكومة في الحديث عنها). محاولة وضع تصورات للخروج من الوضع الحرج، بحاجة إلى تفكير أعمق في ماهية المشكلة، بحيث توضع اليد على الجرح الذي بات ينزف بشدة. التشخيص السطحي يكشف أن المشكل مالي اقتصادي، لكن البحث في المسببات التي أوصلتنا إلى هذا المأزق يؤكد أن الأزمة باتت سياسية بجدارة، وأهم ملامحها فقدان الثقة بين الدولة والشارع الذي يرفض كل ما يصدر عن الحكومات، لقناعته بأن كل ما تم ويتم تغيب عنه الشفافية والإفصاح. الخروج من المأزق لم يعد اقتصاديا أو ماليا، فكل ما يصدر عن الحكومة بهذا الخصوص يقابل بتشكيك وريبة، نتيجة ضعف الثقة بالحلول المطروحة. ثمة من يحاجج ويؤكد أن سبب الاحتجاج يتمثل في رفع الأسعار، وليس للسياسة علاقة بما وقع. هذا صحيح جزئيا، لكن التعبير العفوي إنما يجسد خيبات أمل كبيرة، جاءت متتالية، وساهم فيها ضعف سياسات محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، والإصلاح السياسي المجزوء الذي فشل في جمع كل أطراف العملية السياسية، ولم يأبه لبقاء المعارضة في الشارع، ولم يحترم آمال وطموحات الشعب، إضافة إلى غياب العدالة. وللثقة أكثر من عنوان. فالثقة ليست مفقودة بين الدولة والشارع فحسب، بل هي ضائعة بين المواطن والمستثمر من ناحية والاقتصاد من الناحية الأخرى. فقدان الثقة في الحالتين خطير، لكنه في الجزئية الثانية يجلب نتائج سلبية كبيرة، تنعكس بشكل خطير أيضاً على الوضع النقدي والمالي. فبعد كل المسيرات والشعارات التي خرقت السقوف، لا يظنن أحد أن استعادة الثقة بالاقتصاد مسألة سهلة؛ إذ لا يتوقع أن يعود تدفق السياح على النحو السابق، وحوالات العاملين لن تصل كما في فترة مضت. الأزمة مركّبة ومعقدة منذ زمن، لكن الظاهر أنها تعمقت أكثر من ذي قبل. في السابق، كنا نقول إن الأزمة سياسية، وإن الخروج منها ممكن بحل اقتصادي يريح حياة الناس، ويخفف عنهم أعباءهم الاقتصادية، وينسيهم الإصلاح السياسي. لكن الحكومات أغفلت هذه الوصفة حتى انتهت مدة صلاحيتها، ولم تعد مؤهلة لاستعادة الثقة بين الدولة والمجتمع، وهنا مكمن الخطر. الوصفة اليوم على النقيض، والحل يتطلب تقديم مقاربة تحمل حلا سياسيا استثنائيا وليس اقتصاديا، حتى نتمكن من إعادة بناء جسور الثقة التي هدمها الفساد والحكومات غير النافعة، والبرلمانات المزورة. الأسباب الاقتصادية هي ما دفعت الناس، بشكل عفوي، للخروج إلى الشارع، محتجين دفاعا عن كرامتهم وحياتهم وعيشهم. لكن عودتهم اليوم إلى بيوتهم "مكسوري" الخاطر ليس نجاحا، بل النجاح والنجاة يكمنان في إعادتهم إلى حياتهم الطبيعية، ليكونوا جزءا فاعلا في العملية السياسية المستقبلية. الأزمة ليست مالية بل سياسية؛ فهل نقدم الوصفة قبل أن تصبح هي الأخرى منتهية الصلاحية؟ الشبه بين اليوم وبين العام 1989 سياسي فقط، والأزمة المالية اليوم لا تقترب من مثيلتها في ذاك العام بشيء؛ فالمتوفر من العملات الصعبة في البلد الآن يقارب 17 مليار دولار (موزعة بين البنك المركزي والبنوك التجارية)، فيما المديونية الخارجية لا تتجاوز 5 مليارات دينار، فلماذا الخوف؟ الحل في الماضي كان بانفراج ديمقراطي، وهذه التجربة لا تختلف إلا بعظم المشكلات المالية، والقياس على ما تم ممكن. قرار زيادة الأسعار تم ليلة الثلاثاء، ومنذ ذلك الحين لم نسمع كلمة واحدة من مسؤول حكومي تعليقا على كل ما حدث؛ ربما لأن الحكومة تدرك أكثر من غيرها أن المواطن لا يثق بها ولا بكلامها. الحل.. باستعادة الثقة والأخيرة ممكنة في ظل انفراجة سياسية. ( الغد )