يجب أن نحسن قراءة المشهد

الاحتجاجات الشعبية الغاضبة التي عمّت أرجاء الوطن على اثر القرار الحكومي برفع الأسعار يجب أن تخضع لقراءة علمية موضوعية، بعيداً عن الاستثمار والتوجيه لتحصيل أي مكتسبات سياسية أو مكتسبات أخرى، وإنما من أجل القدرة على التشخيص الدقيق للظروف التي تمر بها الدولة، المفضي إلى معالجة حكيمة ومتأنية وناجحة لجوهر المشكلة التي نعاني منها جميعاً.
المظهر العام لاحتجاجات الغضب الأخيرة أنها عامة وشاملة لكل محافظات الوطن بلا استثناء، فهناك بعض الإحصائيات التي وثقت ما يزيد على (90) فعالية شعبية قامت في وقت واحد على جميع الرقعة الأردنية من الرمثا إلى العقبة، حيث يتم تسجيل مناطق ونواحٍ وقرى تدخل الحراك الشعبي لأول مرة ، وإن أية محاولة للقراءة بطريقة أخرى تلحق الضرر بالوطن وتضلل صاحب القرار، وتُفضي إلى مزيد من الأزمات.
المظهر الثاني: أن الاحتجاجات كانت عفوية، بكل معنى الكلمة، فقد خرج الناس في كل مدينة وقرية لحظة صدور القرار، بدون أوامر أو تخطيط من أي جهة، وكانت ردة الفعل سريعة ومفاجئة بقدر الصدمة التي أحدثها القرار الحكومي، وأية محاولة لوصف الانفجار الشعبي بأنه نتيجة مؤامرة، أو خطة لأي فئة أو جهة، أو أنه يحمل أجندات خارجية فهذه قراءة غير صحيحة، ولا تخدم صاحب القرار، وإنما تحمل من التضليل والتعمية أكثر مما تحمل من معاني النصيحة المخلصة، وينبغي التوقف عن استنساخ الوصفات القديمة التي أودت بالوطن وأودت بنا جميعاً.
المظهر الثالث: أنها احتجاجات شبابية، إذ من الملاحظ أن أغلبية المتظاهرين تتراوح أعمارهم بين سن (15-22) عاماً، وهذه الشريحة بعيدة تماماً عن الانخراط في صفوف الأحزاب، وهي ليست مسيسة في الغالب الأعم، مما يضفي صفة المصداقية على الحراك، وبعده عن الاستثمار والاستغلال، والتوجيه الممنهج، مما يحتم علينا قراءة المستقبل بطريقة واعية، بعيداً عن النخب الفاسدة التي أعماها الترف وأغراها صمت الشعب الأردني الذي لن يستمر طويلاً.
المظهر الرابع: يتجلى بجرعة الغضب الكبيرة، والاحتقان الشديد والتوتر المتزايد الذي يتملك الضمير الشعبي، خاصة الأجيال الجديدة، الذي ظهر في أعمال التخريب والحرق والفوضى، لأنها تشعر بالتهميش وعدم المشاركة من جهة، والارتباك والضبابية والتيه من جهة أخرى، الذي تعاني منه الغالبية الساحقة منهم ازاء المستقبل السياسي للدولة الأردنية ودورها في الإقليم، وإزاء تطورات الأوضاع الاقتصادية المرعبة التي تؤذن بمزيد من القتامة والتدهور في ظل زيادة المديونية العامة وزيادة العجز، وضعف الإنتاج، وقلة فرص العمل، وزيادة معدلات الفقر والبطالة، وعجز الحكومات وعدم قدرتها على النهوض بالواقع المزري واستمرار استنساخها للوصفات الفاشلة القديمة التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة، وليس هناك أي مخطط مقنع للإنقاذ وليس هناك أي بارقة أمل بتحسن الأوضاع وزيادة الانتاج ومعالجة الخلل.
المظهر الخامس: السقوف المرتفعة وتجاوز ما كان يعرف بالخطوط الحمراء في الشعارات والهتافات التي انطلقت بوضوح وصراحة، لم تظهر منذ عامين متتاليين من الحراك الشعبي والسياسي، بل يمكن القول لم تظهر منذ تاريخ نشأة الدولة الأردنية على هذا النحو الشعبي الواسع، مما يمس هيبة النظام والدولة الذي يؤذن بالفوضى والخراب التي ترعب كل العقلاء والحريصين على الاستقرار والأمن.
إن هذه المظاهر، ومظاهر أخرى يمكن استقصاؤها، تجعل صاحب القرار وتجعلنا جميعاً أمام وضع محلي خطير، يستحق الفعل السياسي السريع الذي يقوم على دراسة عميقة وذكية وجريئة للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يبدأ بالاعتراف الشجاع بالمرض، من أجل المباشرة الفورية بالعلاج دون تلكؤ أو ابطاء.
لا أحد يستطيع الادعاء بأنه يملك الوصفة السحرية للإنقاذ، ولكن يمكن التفاهم على الآليات والطرق الصحيحة التي تؤدي بنا إلى التوافق على الخطوة الأولى التي تشكل البداية الصحيحة نحو ايجاد تحمّل المسؤولية الجماعية، التي يشترك فيها المواطنون بتشكيلاتهم السياسية والنقابية والاجتماعية وضرورة انخراطهم في العملية الاصلاحية الشاملة بكل مراحلها، الدراسات والتخطيط والتنفيذ والمتابعة والتقويم، وهذا يقتضي تشكيل جمعية وطنيّة واسعة، تأخذ على عاتقها المشاركة في عملية الإنقاذ وتشرع بالحوار الوطني الجاد والمسؤول. ( العرب اليوم )