أزمة الأجندات

الحكومة والقوى الموالية لها تشير إلى أجندات خارجية وراء تأزيم الشارع الأردني. وثمة غمز مباشر وغير مباشر يستدعي تعثر وصول مساعدات خليجية، واستمرار مسلسل انقطاع الغاز المصري الذي يكلف الأردن خمسة ملايين دولار يوميا؛ أي يرتب على كل أردني خسارة يومية، ما يصل بالتالي إلى حد الشعور بالاستهداف. في هذه الأجواء، تتهم تلك الأصوات المعارضة الأردنية بالانخراط، بتخطيط أو بدون تخطيط، في أجندات خارجية تضغط على الأردن.
في المقابل، تشير قوى المعارضة، وعلى رأسها الحركة الإسلامية، إلى أن الحكومة تنفذ أجندات خارجية، في مقدمتها شروط البنك الدولي التي دفعت إلى رفع الأسعار على الرغم من وجود بدائل وطنية كانت مطروحة على الدولة منذ سنين، ولكن الأخيرة تصر على تنفيذ برنامج خارجي غامض، حُرم الشعب الأردني حتى من حق معرفته والإفصاح عن فحواه.
الإحالة على أجندة خارجية أو مؤامرة قادمة من وراء الحدود، كلها مقولات من عتاد الأزمة وأسلحة المتصارعين فيها، ولكنها ليست أدوات لتحليل الأزمة وفهمها، علاوة على أن ذهنية الإحالة إلى طرف غائب وعدو مجهول، أي ذهنية المؤامرة، تعد أحد الأدلة على الإفلاس في تشخيص الأزمة وفهمها، بل وتعبر عن الخضوع لإرادة أطراف الصراع؛ فلكل طرف مصلحة في إحالة سبب التأزم على الطرف الآخر من خلال التآمر مع طرف خارجي.
الأزمة الأردنية الراهنة، بأبعادها السياسية والاقتصادية، هي أزمة داخلية بدون شك، وهي أزمة بنوية لها تاريخها الطويل. ولعل بعض جذور الأزمة يعود إلى زمن تأسيس الدولة، وبعض تعبيراتها الأخرى يعود إلى ثلاثة عقود أو أقل بقليل. وبالتالي، فأزمتنا مزمنة؛ وهي أقدم من الثورة السورية الراهنة والموقف منها، وهي أطول عمرا من تحولات الأشقاء العرب في الخليج، وهي شاهدة على الربيع العربي ولكنها بالتأكيد ليست وليدته.
في جوهر الأزمة يتربع الاقتصاد السياسي للدولة؛ كيف فكر الآباء المؤسسون للدولة الأردنية في المالية العامة للدولة؟ وهل كان في حسبانهم أن يكون بند المساعدات البريطانية الذي بدأت به أولى الموازنات، بندا ثابتا على مدى تسعين عاما مع تغيير أسماء المانحين؟ وهل فكر الجيل التالي من السياسيين الأردنيين في أن بنية دولة البيروقراط والريع ستستمر إلى ما لا نهاية، وستحافظ الدولة الوظيفية على بريقها ووظيفتها الداخلية والخارجية إلى الأبد؟ وهل فكر الجيل الثالث من النخب الحكومية أن تجريد المجتمع الأردني من قيم الإنتاج وحرمان الدولة من قاعدة اجتماعية إنتاجية، تحت إغواء "بزنس" الاستهلاك وتضخيم قطاع الخدمات، قادر على حماية الاستقرار واستمرار الدولة؟
يعتمد تكوين هياكل الاقتصاد السياسي في الأصل على قرارات سياسية داخلية وسيادية، لكن جوهر تفاعلات الاقتصاد السياسي يرتبط بالتفاعلات الخارجية؛ تفاعلات تعاونية، صراعية، إرغامية، ولكنها تعود في الأصل إلى إرادة داخلية. وعلينا الاعتراف بأن ذهنية غير مسؤولة أدارت البلاد منذ عقود بالاقتصاد السياسي المشوه؛ زادت من مساحة الاعتماد على الخارج على حساب السيادة الوطنية، وفتحت الأبواب للفساد والإفساد بهذا المدخل وغيره، وزادت من فصل المجتمع عن قيم الإنتاج وضخمت من قطاعات "البزنس" الاستهلاكي الرخيص على حساب الإنتاج، وأهملت السياسات الاجتماعية، وضربت الاستقرار الذي بقي المورد الأغلى للدولة.
الأزمة البنيوية التي خلقها الاقتصاد السياسي في الأردن ليست قدرية أو حتمية، وليست مستحيلة أو مستعصية على الحلول، بل مشكلتها الكبرى أن صناع القرار دائما تعاملوا معها على أساس قدري؛ فلم يتصوروا أن يصمد الاقتصاد الوطني بدون منح ومساعدات، ولم يتصوروا نظاما ضريبيا بدون تشوهات، ولم يتصوروا نظم مساءلة تُخضع كافة المؤسسات والسلطات والأشخاص للإفصاح والشفافية.. فجرى ما جرى.
( الغد )