لماذا تراجعت المجتمعات عن دورها؟

حين تتراجع الحكومات عن القيام بدورها ، يُفترض ان تنهض المجتمعات ، بمؤسساتها وأحزابها وبناها الاجتماعية ، لسدّ الفراغ وتعوض النقص ، وفي تاريخنا العربي والاسلامي دعك من تجارب الامم الاخرى نماذج كثيرة اثبت فيها المجتمع ذلك.
خذ مثلا نظام الوقف الذي ازدهر في العصور التي انشغلت فيها الدولة بالفتوحات والحروب ، او انسحبت من بعض وظائفها ، مما دفع الاثرياء والمحسنين الى وقف اموالهم واملاكهم لحساب التكافل مع الناس ، ورفد عجز الدولة اذا عجزت عن الإنفاق.. وهكذا ، وخذ - ايضا - تجربة المذاهب الاسلامية التي خرجت من المجتمع وهي اقرب الى الاحزاب السياسية في عصرنا وكيف ساهمت في اثراء الواقع الفقهي والفكري واصلاح المجتمع رغم ما واجهته من قبل السلطة السياسية آنذاك من ضغوطات ومضايقات.
لا يمكن - بالطبع - ان أقف عن الدور الكبير الذي نهضت به قوى المجتمع ، حين كان حيّا ونابضا بالحركة ، في تجربتنا التاريخية ، يكفي ان اشير الى دور المصرف المصري مثلا وصاحبه في التنمية التي حصلت في مصر ، ودور الرباطات التي انشأنها المتصوفة في بلادنا العربية لاعانة الفقراء والمساكين ، ودور النهضة السياسية التي ارتبط بمرحلة الاصلاح وروادها امثال الافغاني ومحمد عبده وغيرهم.. الخ.
للاسف ، انتهى كل ذلك ، وبتنا اليوم نشعر بأن الحالة التي انتهت إليها مجتمعاتنا تبعث على الشفقة ، خاصة بعد ان دخلت علينا رياح الخصخصة ، واستقالت الحكومات من كثير من ادوارها ، وتركت الناس يتامي امام غول الاسواق وارتفاع الاسعار ، وفوضى المستثمرين الجدد ، وما طرأ على قيمنا من تحولات وتشوهات.
كان يفترض ان يبدع المجتمع ، بما يمتلكه من وسال وأدوات ، ردودا مقنعة على تساؤلات الناس الحائرة ، وان يجد ما يناسب من بدائل لتعويض الانسحاب الذي حصل ، الاحزاب - مثلا - كان يمكن ان تستفيد من تجربة المذاهب الاسلامية ، الاثرياء كان يمكن ان يحييوا تجربة الوقف ، مؤسسات المجتمع الاخرى والنقابات والجمعيات كان يفترض ان تمارس دور الحسبة والرقابة وان تفعل حضورها للجم التشوهات التي اصابت البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، النخب - ايضا - كان يجب ان تنهض لبناء مشروع الاصلاح او توجيه الناس نحو خياراتهم وحقوقهم الطبيعية او الدفاع عن مصالحهم.
هذا لم يحدث مع الاسف ، ما فتح الباب امام حالة من الفوضى الاجتماعية ، والفقر السياسي ، والتشوهات ، والازمات الاقتصادية: حالة - ان شئت - من الشعور التيه واليُتم والقلق ، عبّرت عن نفسها - احيانا - بالجنوح الى العنف ، او - احيانا اخرى - بالانسحاب من العمل العام والحياة والسياسة ايضا ، وانتهت بالناس الى البحث عن بدائل ذاتية ، تجاوزت المؤسسات والقوانين والتقاليد ، ورسخت وعيّا جديدا من الاعتماد على الذات بصورته السلبية ، او صورا من الانتقام اللاشعوري من المجتمع ، او اموالا من البؤس الاجتماعي والعودة الى الدوائر القديمة لحل ما ينشأ من مشكلات ، او مواجهة ما يستجد من اخطار.
لقد تزامن - للاسف مرّة اخرى - تهميش دور الحكومات وتقليص واجباتها ، مع تهميش دور المجتمع وضرب بُناه ورموزه ومؤسساته ، الامر الذي ترك الناس وحيدين في مواجهة الواقع ، بكل ما فيه من نوازل ومصائب ، ومواجهة المستقبل بكل ما يطرحه من اسئلة مزعجة ، وقد زاد الطين بلّة - كما يقال - ما طرأ من ازمات على كافة المستويات فيما يتعلق بحياة الناس. وما وصلنا من بضائع ثقافية وسياسية أصبحت سمة للعصر الذي لم نتمكن من التصالح معه ، او التعايش مع مخرجاته الجديدة.
ماذا حدث للناس في مجتمعنا؟ ولماذا انتهوا الى هذه الحالة؟ سؤالان يستحقان ان نتوقف امامهما بمزيد من الصراحة والفهم ، قبل ان نلوم الحكومات او ننشغل بمزيد من السجالات ، او نغمض عيوننا على الخلل وكأن كل شيء على ما يرام. ( الدستور )