نصر مُتحقق في غزة.. وآخر مُنتظر في نيويورك

وفقاً لخالد مشعل، فقد حقق الفلسطينيون “نصراً تكتيكياً” في المواجهة الدامية على جبهة القطاع المُحاصر...المعركة وضعت أوزارها و”التهدئة” دخلت حيز التنفيذ، لكن الاشتباك السياسي حول مستقبل غزة، موقع حماس، دور مصر في خريطة التحالفات والمحاور العربية، قد بدأ على نطاق واسع.
الفلسطينيون على موعد مع مواجهة أخرى، سياسية هذه المرة، ساحتها العالم بأسره، الذي سيجتمع في نيويورك قبل نهاية الشهر الجاري، للتصويت على فلسطين، دولة غير عضو في الجمعية العامة...المعركة هنا شرسة أيضاً، والحليفتان الإستراتيجيتان: إسرائيل والولايات المتحدة، مستنفرتان بطاقتيهما القصوى لإحباط المسعى الفلسطيني، لكن المؤكد أن عباس سيعود من نيويورك، حاملاً بشارة “نصر تكتيكي” آخر لفلسطين.
بعض من تناولوا نتائج الجولة الأخيرة من حروب غزة المفتوحة، آثروا وضع السلطة والمنظمة والرئاسة في خانة الخاسرين، منطلقين من نظرية “الحصيلة الصفرية” في عدّ الخسائر وإحصاء الأرباح، والتي تعني أن كل مكسب تحققه حماس، هو خسارة صافية لفتح، والعكس صحيح، لم ينطلق كثيرون ممن أجروا “جردات حساب” لحرب “عامود السحاب”، من نظرية “رابح – رابح” في توصيف العلاقات الفلسطينية الداخلية، بمعنى أن مكاسب حماس في هذه المواجهة، قد تصب القمح صافياً أيضاً، في طاحونة الفريق الآخر، والشعب الفلسطيني برمته.
أحسب أن حرب غزة، قد حسمت تردد بعض القيادات الفلسطينية التي تعاملت بحذر مع مسألة التوجه للأمم المتحدة..الآن تبدو رام الله أكثر توحداً خلف هذا القرار...ثم أن المسعى الفلسطيني لنيل اعتراف العالم بالدولة “غير العضو”، سوف يتأثر بما لا يدع مجالاً للشك، بتداعيات الحرب الإسرائيلية المجنونة على غزة...فالذين تعاطفوا مع شعب فلسطين المُحاصر والُمجوّع، سيحسمون ترددهم لصالح فلسطين...والذين يتخوفون على السلطة من صعود حماس وحلفائها من إخوان المنطقة وإسلامييها، قد يدعموا سعي الرئيس عباس للخروج بـ”نصر تكتيكي” يعيد لفريقه بعضاَ من شعبيته وألقه المفقودين..وربما ستكون مهمة عباس وصحبه في نيويورك غداً، أسهل مما كانت عليه بالأمس، والفضل في ذلك يعود لصمود غزة وشعبها وتضحيات شهدائها وبسالة مقاوميها.
ثم، أن هذا المناخ التصالحي الذي يطبع المواقف والتصريحات الفلسطينية منذ بدء العمليات الحربية الإسرائيلية، والذي يعكس إدراك الجميع لمصلحتهم الخاصة (دع عنك المصلحة العامة) في استئناف جهود المصالحة وإتمام الوحدة الوطنية، سوف تدفع للخلف بنظرية “الحصيلة الصفرية” لصالح معادلة “رابح - رابح”، وإذا ما كُللت جهود الرئيس عباس باعتراف دولي وازن بفلسطين، فإن ذلك سيُيسّر مهمة إنجاح الحوار بين فريقين “منتصرين تكتيكياً”، وسنكون أمام حوار بين متساوين، حتى لا نذهب بعيداً في التفاؤل فنقول بين رفاق درب واحد ومسيرة واحدة (؟!).
صمود غزة وبسالة أهلها ومقاومتها، والنصر المجيد الذي صنعته في وجه الغطرسة الليكودية اللئيمة، أعاد الاعتبار لخيار المقاومة في أوساط مختلف قوى العمل الوطني الفلسطيني، وسيجد الرئيس عباس عنتاً ومشقة بعد اليوم، في تسويق “نعيه المبكر” لهذا الخيار...كما أن المصاعب التي تعترض خيار المقاومة، بعد أن ابتعدت فصائله عن “محور المقاومة”، ستجعل هذه القوى والفصائل أكثر “واقعية” في التعامل مع متطلبات الوحدة والمصالحة، يضاف إلى هذا وذاك، حاجة مصر الماسّة، لفترة التقاط أنفاس، بعيداً عن الحرائق المشتعلة على حدودها مع غزة، وهي حاجة ستدفع مصر، وبوحي من مصالحها القومية العليا، لدفع خيار المصالحة، والتصرف على نحو أكثر توازناً واتزاناً بين فريقيها وطرفيها المُختصمين.
على أية حال، لقد وضعت المعارك أوزارها، وصمتت المدافع، ليبدأ من الآن الاشتباك السياسي حول الوجهة التي ستسلكها الأحداث واللاعبون في المرحلة المقبلة، فإذا كانت واشنطن تريد بلورة تحالف “سنيّ معتدل” يضم مصر وتركيا والسعودية وقطر، يبتلع حماس ويهضمها، فإن المحور الآخر لم يرفع الراية البيضاء بعد، ومحاولاته استرداد حماس أو تحييدها على الأقل، لن تتوقف، خصوصاً بعد أن لقيت أطروحاته ما يكفي من المبررات و”الحيثيات” في ثنايا المعارك الأخيرة في غزة. ( الدستور )