عن الحرب والسياسة والإحصاء

في حمأة الانشغال بحرب إسرائيل على غزة، وانقسام مصر على نفسها، بات «الحدث السوري» يمر مرور الكرام على شاشات التلفزة وعناوين الصحف .. وغالباً في سياق إحصائي سقيم، يحصي عدد قتلى اليوم وتوزيعهم الجغرافي، وينبئ باستمرار المعارك الضارية في دمشق وحلب وإدلب ودير الزور وأريافها.
مع أن الأزمة الأكبر والأخطر في سوريا، سجلت خلال الأسابيع القليلة الفائتة، حدوث ثلاثة تطورات نوعية على الأقل، سيكون لها أثرها المقروء في تقرير وجهتها وخواتيمها، نتوقف عند كل واحد منها بإيجاز:
الأول، أن النظام، ومنذ عدة أسابيع، بات يتموضع في حالة دفاعية مشلولة، قرى وبلدات (في الأرياف الشمالية بخاصة) تسقط تباعاً في أيدي المعارضات المسلحة، ولم تسجل قواته المسلحة وأجهزته الأمنية، أي تقدم ميداني يذكر، وكل الوعود باسترداد حلب، ذهبت أدراج الرياح، لكأنه فقد القدرة على الهجوم، وقرر التسليم بوقوع هذه المناطق في قبضة المعارضين..ولقد كان لافتاً أن النظام عجز حتى عن «استثمار» أسبوع الانشغال الدولي الحاسم بعدوان إسرائيل على غزة، لتحقيق تقدم ميداني ذي مغزى..فهل فقد النظام القدرة على المبادرة والهجوم، فعلاً؟..هل أنهكت قواته فعلاً وباتت عاجزة عن بسط سيطرتها وسيادتها على مساحات واسعة من سوريا؟
الثاني، وهو تطور يسير في عكس الاتجاه الأول، فقد سجلت الأسابيع، بل والأشهر الثلاث القليلة الفائت، تراجعاً ملحوظاً في أعداد (ونوعية) المنشقين عن النظام، من مدنيين وعسكريين...لم نعد نسمع بهرب الضباط الكبار وعائلاتهم، أو الدبلوماسيين وذويهم، ولعل آخر الانشقاقات «الوازنة» التي سجُلت في هذه الفترة، ذاك الذي نفذه رئيس الوزراء السوري السابق رياض حجاب..ما مغزى ذلك، وكيف تستقيم نظرية «تماسك النظام» مع فرضية «فقدانه لزمام المبادرة والقدرة على الهجوم»؟.
والثالث، ويتجلى في انتهاء الموفد الأممي الأخضر الإبراهيمي من وضع اللمسات الأخيرة على المبادرة التي ستحمل اسمه، والتي يُقال أنها «تطوير» لمبادرة سلفه كوفي عنان، وترجمة أممية لمقررات مؤتمر جنيف..وبرغم التسريبات الواسعة التي كشفت عن أهم عناصر المبادرة، إلا أنها وصاحبها، ما عادا يحظيان بصدارة الأخبار والتغطيات والاهتمامات، لكأن الرجل يتعرض لـ»مؤامرة صمت» متعددة الأطراف.
في هذه الأثناء، بدأ الحديث عن «معركة دمشق» الكبرى، يعود لواجهة الأخبار السورية...مئات المسلحين تسربوا إلى أحياء العاصمة، والجيش فرغ من وضع الخطط لمواجهة احتمال انتقال المعارك إلى قلب دمشق..ولا ندري ما إذا كنا سنواجه قريباً «أم المعارك» أم أن هذا الضخ الإعلامي، ليس سوى فصل جديد من فصول الحرب النفسية (الإعلامية) التي يشنها خصوم النظام الإقليميون عليه.
أنصار النظام والناطقون باسمه، يحدثونك عن «تكتيك» يُراد به استدراج «الإرهابيين» وتجميعهم في مناطق محددة، لضمان شن «حرب التطويق والإبادة» عليهم..هم ينكرون فرضية «الانكفاء والانهاك» في تفسير تراخي قبضة النظام عن مناطق واسعة من سوريا، ويُعدّون ذلك من ضمن «تكتيك» أجد كما يجد غيري، صعوبة فائقة، في فهم كنهه وأغراضه السياسية والعسكرية.
أما خصوم النظام ومعارضوه، فيحدثونك عن «تطور نوعي» في قدراتهم، وعن انهيارات متلاحقة في جدران النظام الدفاعية، تشجعهم على نقل المعركة إلى قلب دمشق..ويضيف هؤلاء أن النظام وقد بات عاجزاً عن التقدم صوب مناطقهم، بات يعتمد «تكتيك الأمن بالوكالة» في المناطق المتاخمة لـ»الأراضي المحررة»، كأن يترك أمر الدفاع عنها لمليشيات محلية (أقلوية) مثل الأكراد في شمال شرق سوريا، وحزب الله في القرى الشيعية الواقعة بين حمص والحدود اللبنانية، وقد ينسحب ذلك على الأقليات الأخرى التي يُشاع أنها تشهد أكبر عملية تسلح وتكوين «أمن ذاتي» منذ اندلاع الأزمة السورية.
كما أن خصوم النظام يعيدون على مسامعك ذات التبريرات القديمة الجديدة عن أسباب «تماسك النظام» حتى الآن، فمن يريد من أركانه الانشقاق، يقامر بمصير عائلته وعشيرته، مع أن الانشقاق اليوم، بات أسهل بكثير مما كان عليه بالأمس، سيما في «المناطق المحررة» أو تلك المتاخمة لها، بما في ذلك «الانشقاق الجماعي» للمسؤولين وعائلاتهم وذويهم.
تبقى الآمال بحل سياسي لسوريا، معلقة على مهمة الإبراهيمي..وهي مهمة سيكون محكوماً عليها بالفشل ومواجهة ذات المصائر التي انتهت إليها مبادرات ومهمات سابقة، إن لم تتوفر لها، شبكة أمان دولية، روسية – أمريكية على وجه التحديد، فهل سيجد الإبراهيمي في موسكو وواشنطن إذنا صاغية لنداءات التوافق والحلول الوسط والصفقات الشاملة، أم أن الفجوة ما بين القوتين العظميين، ما زالت من الاتساع، بحيث أنها ستكون كفيلة بالتهام مهمة الإبراهيمي ومساعيه الحميدة؟
( الدستور )