النزاع الأهلي!!

النزاع الاهلي هو أقل من حرب أهلية وأكثر من مجرد خلاف، لكنه في النهاية يمهد لحرب أهلية باردة تسخن بالتدريج المتصاعد، وبتوتير الناس من خلال ايقاظ الهاجع في ذاكرتهم ولا وعيهم، وما يسمى الدبلوماسية الوقائية اليوم هو محاولات تبذلها الهيئات الدولية لاجهاض هذه النزاعات، رغم أنها تسمى في معجم هذه الدبلوماسية أزمات، لهذا يجب ألا نستخف بالنزاعات عندما تبدأ، حتى لو كان ذلك على استحياء وعن طريق الهمس، لأن تغذيتها بالتحريض وفقه الاقصاء المتبادل لا بد أن ينقلها من طور خامل الى طور فعال، خصوصا اذا كانت الطبقة السياسية والنخب مستغرقة في شجونها الخاصة بمعزل عن الشأن الوطني العام. ولا يمكن تحديد موعد انطلاق أي حرب أهلية باليوم والساعة أو حتى بالشهر والسنة، ويبدو من السذاجة أن نصدق بأن حرباً أهلية كالتي عصفت بلبنان ولا تزال ظلالها تثير لدى اللبنانيين فوبيا العقدين الأعجفين بدأت بحادثة باص، فالأحداث من هذا الطراز هي القش الذي يقصم ظهور الجمال، وكذلك الجبال اضافة الى ظهر الوطن.
وما يحدث الآن في مصر تخطى الحراك الحيوي والاختلاف الى النزاع ما دام هناك اشتباك تخطى الكلام الى الحجارة والرصاص في بعض الأحيان، وما كان زاوية منفرجة الى حد ما في ميدان التحرير قبل ما يقارب العامين، هو الآن زوايا حادة من كل الجهات، وقد حمل هذا النزاع الشعبي عدة أسماء في مصر بالتحديد، وكان له باستمرار طرفان اضافة الى الطرف الخفيّ الذي تنسب اليه جرائم وتجاوزات، وكأن من يمثله يرتدي طاقية اخفاء تتيح له أن يرى ولا يراه أحد، ويضرب من يشاء لكنه ينجو لأنه ما من أحد يشعر بوجوده.
بدأ طرفا النزاع في عسكرة الدولة وتمدينها خلال الأشهر التي تولى فيها الجيش السلطة في المرحلة الانتقالية، ثم جاءت المرحلة الانتقامية وصار الطرفان المتنازعان هما تديين الدولة أو أخونتها ومن يحسبون على العلمانية والليبرالية، وليس مهماًَ ما تحمله أطراف النزاع من أسماء، لأن الأهم هو الشحنة المحركة له، والتي قد تتصاعد وتيرتها اذا كان الحراك كله قد انتهى الى استبدال احتكار باستحواذ.
وما يكتب الآن في مصر عن الفرعنة بمعنى حكم الفرد الواحد أو الجماعة الواحدة يكاد أن يشمل تاريخ مصر كله منذ فرعون الأول، فالمصريون يخشون من هذه الظاهرة التي أدت الى كوارث ثم الى بطالة سياسية في حياتهم الصعبة، أن تتكرر بصيغ مختلفة خصوصاً وان لديهم مثلاً شعبياً معناه ما من فرعون الا اذا كان هناك من فرعنة أو أتاح له الاستفراد بالسلطة.
وقد بدأت بواكير هذا النزاع منذ سقوط النظام قبل ما يقارب العامين، عندما انشق الميدان الى عدة ميادين، وتم التراشق باتهامات التخوين السياسي والأخونة.
واذا كان البعض ممن يدافعون عن هيبة الدولة العميقة يحذرون الرئيس من التراجع عن قراراته للمرة الرابعة لأن ذلك يضعفه، فان ما هو اسوأ من جرح الهيبة هو جرح الهوية الوطنية الواحدة، واذا لم يتنبه المصريون بمختلف الشرائح والتيارات الى هذا الشرر المتطاير الآن من الساحات والميادين ودور القضاء.. فان النزاع الأهلي قد يحمل اسماً آخر لا يتمناه أحد لمصر العزيزة!
( الدستور )