واشنطن ومرسي

سجلت “نيويورك تايمز” على البيت الأبيض امتناعه عن توجيه الانتقاد للإعلان الدستوري الجديد، الذي أصدره الرئيس المصري محمد مرسي (منفرداً)، واكتفاء إدارة أوباما بالتعبير الخجول الذي صدر عن الخارجية الأمريكية وعبّرت فيه عن القلق من هذه الخطوات، داعية للحوار و الاستقرار.
وفقاً لمصادر أمريكية عديدة، فإن سبب “التغاضي” الأمريكي عن قرارات مرسي، إنما يعود للدور الذي لعبه الرئيس الإخواني في تمرير التهدئة، والذي استحق عليه، فيضاً من الإشادات والتقديرات، جُلها صدر عن البيت الأبيض والإليزيه و10 داوننغ ستريت، وبعضها تردد على ألسنة كل من بيريز ونتنياهو وباراك، حتى أن ليبرمان المعروف بكرهه الشديد للعرب ورغبته في قصف السد العالي، لم يخف ارتياحه لأداء الرئيس المصري ؟!.
وتعتقد ميشيل دان، الباحثة السابقة في مؤسسة كارنيغي ومجلس الأمن القومي الأمريكي، بأن مرسي ما كان له أن يقدم على خطواته التصعيدية الأخيرة، لولا ثقته الأكيدة بنفسه المتولدة عن دوره زمن العدوان على غزة، وهو الذي حاول من قبل وفشل، عندما اضطر لإعادة النائب العام إلى عمله بعد ساعات من اقالته.
وتنقل “الشرق الأوسط” اللندنية عن دانيال غرينفيلد من “فريدم هاوس” قوله: “إما أن مرسي حصل على موافقة من البيت الأبيض قبل اتخاذ قراراته، أو يفترض أنه أثبت أهميته خلال مفاوضات غزة مع أوباما، واقتنع أن الرئيس الأمريكي لن يجرؤ على الاحتجاج على ضد هذا الإجراء، ويمكن أن يكون هذا وذاك، وفي الحالتين فإن الموضوع يثير القلق”.
رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي كارل ليفين، وعلى الرغم من دعوته إدارة أوباما “توخي الحذر في علاقاتها مع الرئيس المصري، “لأننا لا نريد بالطبع أن نرى طاغية منتخبا بشكل ديمقراطي يحل محل طاغية غير منتخب بشكل ديمقراطي كما كان الحال من قبل” ، إلا أنه استدرك بالقول “إن مرسي يقدم للولايات المتحدة تحديات وفرصاً”، فـ “الرئيس المصري يمكن أن يكون له تأثير كبير في وقف العنف في غزة .. إذا كانت مصر تتحمل بعض المسؤولية الفعلية عن نجاح وقف إطلاق النار وإذا كانت ستمنع هذه الصواريخ من الوصول من خلال تلك الأنفاق إلى غزة ويبدو أنها تتحرك في هذا الاتجاه، ويمكن أن يحدث هذا فارقا حقيقيا فيما يتعلق بما يجري في غزة وهجماتهم على إسرائيل”.
تعيدنا هذه المواقف والتصريحات الأمريكية، إلى مسألتين اثنتين، طالما أتينا عليهما في سياق “التساؤل” و”التخمين”..الأولى، قديمة، وتتعلق بما إذا كانت واشنطن سترتضي من حكم الإخوان اليوم بما ارتضته من نظام مبارك بالأمس: دعم السلام مع إسرائيل وحفظ أمنها، مقابل “غض النظر” عن الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان..والثانية، حديثة، وتتعلق بما هو غير معلن من “تفاهمات التهدئة” الأخيرة في غزة، خصوصاً التفاصيل المتعلقة بالتفاهمات المصرية – الإسرائيلية حول “الرعاية” و”الضمانة” المصرية للاتفاق من جهة، وطبيعة الالتزامات التي قطعتها القاهرة على نفسها لجهة منع تهريب السلاح إلى قطاع غزة، وتصفية عوالم الأنفاق وتجارتها متعددة الأغراض.
بالطبع، فإن من البديهي التذكير، أن هناك في واشنطن، من لا يزال يبدي قدراً أعلى من الحذر والشك بمرسي والجماعة، ويخشى أن تكون تعهدات الرئيس بحفظ التهدئة وأمن إسرائيل من باب “التقية السياسية” أو “الخطاب المزدوج” للإخوان، استمرار لمدرسة في التفكير الأمريكي التي “تقطع” بعدم قابلية التيار الإخواني للتحول إلى حركة مدنية – ديمقراطية بمرجعية إسلامية من طراز إخوان تركيا (العدالة والتنمية)..فهذا روبرت ساتلوف من معهد واشنطن، الذي اشتهر بمواقف من هذا النوع، يرى أن “شهر العسل” بين الإخوان وأوباما، لن يستمر طويلاً، محذرا أوباما من أن مرسي لن يستطيع الانفصال عن جذوره الإيديولوجية.
أما السيناتور الجمهوري، والمرشح السابق للرئاسة جون ماكين، فهو يحذر من احتمال قيام دولة إسلامية في مصر، أو عودة العسكريين إلى الإمساك بهذا البلد، في حال لم يتراجع الرئيس محمد مرسي عن الإعلان الدستوري الأخير الذي أصدره والذي أعطاه صلاحيات مطلقة، داعياً إدارة أوباما إلى “التفكير جديا في استخدام المساعدة التي تقدمها الولايات المتحدة إلى مصر وسيلة للضغط على الرئيس مرسي للتخلي عن الإعلان الدستوري الأخير الذي دفع بالبلاد إلى أزمة خطيرة”.
نحن إذاً بإزاء مرحلة من عدم الاستقرار ووضوح الرؤية في السياسة الأمريكية حيال مصر، تواكب “حالة الانتقال السياسي الصعبة” التي تعيشها مصر...والمؤكد أن السياسة الأمريكية حيال مصر بعامة، وإخوانها على وجه الخصوص، ستظل تراوح حتى إشعار آخر، بين حدي الخشية والرهان..الخشية من أن تنتهي الثورة المصرية إلى ما “صورة مزيدة ومنقحة” من الثورة الإسلامية في إيران، فيحل “المرشد العام” هنا محل “الفقيه الولي” هناك..والرهان على دور إخواني في حفظ سلام مصر مع إسرائيل، وشمول غزة وحماس بمظلته وموجباته ومندرجاته..أليست هذه هي بالضبط، الدائرة التي تقف في جماعة الإخوان بؤرتها الآن، حيث يسعى رئيس منها لتحصين سلطته وسطوته تحت ستار كثيف من الالتزام بالتهدئة والسلام وكامب ديفيد، كما لم يفعل أحدٌ من قبل، فيما جماعته تحاول في نفس الوقت، الاحتفاظ بشعاراتها ومرجعياتها الإيديولوجية التي أعطتها طوال ثلاثين عاما أو أزيد قليلاً، موقع “العمود الفقري” للمعارضة في مصر.
( الدستور )