ثورة الربيع العربي والأحزاب والجماعات

استهدفت ثورة الربيع العربي الأنظمة العربية المستبدة، الغارقة في حمأة الفساد، والتي امتهنت أسلوب وسياسة الكبت، ومنهج تضليل الشعوب وتغييبها عن ممارسة حقوقها في اختيار الحكومات ومشاركتها في شؤونها وسيادتها على أرضها ومقدراتها والاطمئنان على مستقبل أجيالها، واستطاعت تحقيق انجازات عظيمة وهائلة خلال عامين، وربما تكون أعظم انجازات الثورة تلك المتعلقة بتطور مستويات الوعي السياسي، وعلو مستوى الشعور بالكرامة وتقدير قيمة الحرية. Body : استهدفت ثورة الربيع العربي الأنظمة العربية المستبدة، الغارقة في حمأة الفساد، والتي امتهنت أسلوب وسياسة الكبت، ومنهج تضليل الشعوب وتغييبها عن ممارسة حقوقها في اختيار الحكومات ومشاركتها في شؤونها وسيادتها على أرضها ومقدراتها والاطمئنان على مستقبل أجيالها، واستطاعت تحقيق انجازات عظيمة وهائلة خلال عامين، وربما تكون أعظم انجازات الثورة تلك المتعلقة بتطور مستويات الوعي السياسي، وعلو مستوى الشعور بالكرامة وتقدير قيمة الحرية. الأمر غير المنظور في الثورة العربية الحديثة، الذي لم يلتفت إليه المراقبون والمحللون، أو أنه لم يأخذ حظه الوافي من البحث والاستقصاء هو ذلك المتعلق بأثر الثورة على الأحزاب والجماعات السياسية وأطر الفعل الشعبي بكل ألوانها ومستوياتها، إذ من المحتم والشيء الذي ينبغي الاهتمام به بجدية أن الثورة نالت من بنية هذه الأحزاب والجماعات وهياكلها وأطرها وأفكارها ورؤاها وسياساتها ووسائلها ومستقبلها، فبعضها التحق بالأنظمة البائدة بطريقة صامتة، وبعضها أصبح على وشك الانهيار ويلفظ أنفاسه الأخيرة، وبعضها أصبح ديكوراً فارغاً وهياكل متداعية تدعو للحزن والرثاء، وبعضها ما زال متماسكاً وفاعلاً. الأحزاب والجماعات المتماسكة التي أثبتت حضوراً ونشاطاً ملحوظاً، ليست بمنأى عن التغييرات العميقة، والعواصف الهوجاء التي تهزها هزاً عنيفاً، ما يقتضي وقفة سريعة وجادة، تتصف بالحماسة والإرادة المبصرة من القيادات الفكرية فيها ومن أصحاب النظر البعيد والرؤية الإستراتيجية الشاملة، لتدارك الخلل ومعالجة نقاط الضعف عن طريق الجرأة باتخاذ سياسات تغييرية عميقة تمس البنية التنظيمية والهياكل الإدارية، والقفز الآمن صوب اتخاذ التدابير الإبداعية نحو الاستعداد للتكيف مع معطيات الثورة الجديدة. إن الإصرار على الآليات التقليدية القديمة، والتمسك بالقوالب السياسية الجامدة، والاستمرار بالنمط العسكري، الذي أملته مرحلة القمع والأحكام العسكرية، واتخاذ بعض القادة لمواقف متصلبة تتصف بالضبط والربط والأوامر والسمع والطاعة، سوف يؤدي هذا المسلك إلى تصدع هذه الأطر لا محالة، وسوف يؤدي إلى انفراط عقد الشباب الطامح نحو الانجاز الملموس، وسوف يؤدي التمترس خلف القوالب التنظيمية الحادّة، المصحوب بضيق الأفق إلى تسرب العقليات الكفؤة والطاقات التي تبحث عن دور فاعل وجاد في بناء مجتمعها وخدمة شعبها، وتريد الالتحاق بركب الدول المتقدمة والمتحضرة التي استطاعت أن تختصر الزمن والجهد في تحقيق معدلات متقدمة في النمو على جميع الأصعدة السياسية والعلمية والاقتصادية. إن الأحزاب السياسية التي قضت بضعة عقود في بيئة استبدادية خانقة، وتكيفت مع مرحلة التهميش والإقصاء والإبعاد عن المشاركة الحقيقية في صنع القرار وإدارة الدولة، سوف تجد نفسها أمام استحقاقات ضرورية تملي عليها السير نحو إجراء تغييرات جوهرية عميقة في منهجية التعامل مع الواقع المستجد، وما تتطلبه مرحلة المشاركة والتفاعل مع الجماهير في بناء مؤسسات الدولة الحديثة. المرحلة السابقة التي أملت على معظم القوى السياسية البقاء في مربع المعارضة، تتطلب طرقاً أسهل بكثير وأقل تكلفة من المرحلة الجديدة، فكانت القوى السياسية تكتفي بالقول والخطابات وتوجيه الانتقادات، والتحليق بالمثاليات، أما في مرحلة الانخراط بالسياسة الفعلية وملامسة الواقع فالأمر مختلف جداً، فهي بحاجة إلى اقتراحات عملية مقنعة وبرامج قابلة للتنفيذ ومبادرات قائمة على استقراء الواقع بدقة وحكمة وسياسة مبصرة، وإيجاد الأطر العملية التي تجمع ولا تفرق وتبشر ولا تنفر وتبني ولا تهدم .
( العرب اليوم )