حول مرحلة ما بعد الأسد

طوال الوقت، غابت الأحزاب الكردية عن تجمعات المعارضة، من المجلس الوطني (رغم ترؤسه من قبل كردي -عبد الباسط سيدا- بعد برهان غليون)، إلى الائتلاف الوطني. وفيما يشبه موقفا استباقيا في ظل ملامح سقوط الأسد، خرجت أحزاب كردية بموقف مشترك يطالب باتحاد فيدرالي لسوريا بعد بشار الأسد.
لموقف الأحزاب الكردية وما تفعله في شمال شرق سوريا، وصدامها مع بعض قوى الثورة، وتسامح النظام معها بهدف ضرب الثورة، لكل ذلك حكاية خاصة قد تستحق وقفة أخرى، لكن ما يعنينا من القصة يتعلق بما تطرحه من أسئلة بخصوص سوريا ما بعد الأسد، وهي أسئلة باتت مخيفة بالنسبة لكثيرين في ظل تعدد الكيانات والمرجعيات السياسية والعسكرية داخل سوريا وخارجها.
لو جئت تعدد الفصائل والكيانات والأحزاب والتجمعات في سوريا اليوم، فستصاب بالتعب والإعياء قبل أن تحصي القليل منها، والسبب بالطبع هو أننا إزاء بلد غابت فيه الحياة السياسية الحقيقية التي احتكرها عمليا حزب البعث (أصبح مجرد واجهة لنخبة احتكرت السلطة والثروة، خصوصا في مرحلة الأسد الابن)، ومعه أحزاب ما يُعرف بالجبهة الوطنية التقدمية التي لم تكن سوى ديكور بلا قيمة، وإن لم يُستبعد حضور بعضها لاحقا في سياق أي تحول جديد.
إلى ذلك تحضر في سوريا قضية التعصب للمدينة، كما تحضر مسألة الريف والمدينة، فضلا عن الأبعاد العشائرية والحزبية والأيديولوجية، وبعد ذلك الكتائب والجماعات التي تشكلت بعد الثورة، وسيترك كل ذلك ظلاله على مسألة الوحدة والتفاهم (دعك من طموحات زعماء الأكراد التي أشرنا إليها في البداية).
اليوم، وفيما تتبدى ملامح سقوط النظام، فقد باتت أسئلة المرحلة التالية مشروعة، من دون أن يؤدي طرحها إلى اقتتال على جلد الدب قبل صيده، لأن الأسد لا يزال هنا رغم وضوح نهايته القريبة، وسيناريو الدويلة العلوية لم يغب تماما بعد، ومعه استمرار القتال إلى مدة قد يزيدها طولا أي صراع جانبي لا يركز على إنهاء المعركة بعيدا عن القتال على الغنيمة.
ولا خلاف بالطبع على أن فوضى ما بعد سقوط النظام ستتسبب في مزيد من القتل والدمار إذا لم يتدخل العقلاء للجم الصراع والتوصل إلى تفاهم يؤدي إلى عبور للمرحلة الانتقالية، وصولا إلى دولة تعددية.
ما ينبغي أن يُقال ابتداءً هو أنه ليس من حق أي أحد أن يدعي أنه هو من صاغ ملحمة التحرير وإسقاط النظام، لأن من صاغها هو الشعب السوري الذي بذل كمَّا هائلا من التضحيات في المعركة، من دون أن يقلل ذلك من دور وحضور الجيش الحر والجماعات المسلحة في الملحمة بعد تحول الثورة في معظم تجلياتها من سلمية إلى مسلحة.
هنا تحضر المشكلة الأكبر، فكل طرف سيدعي أنه هو صاحب الدور الأكبر، وهي قصة يصعب حسمها بالكامل، وإذا قلنا أن المجموعات الإسلامية قد حملت العبء الأكبر، وهو قول صحيح دون شك، فإن تعددها سيجعل تقييم الموقف أكثر صعوبة.
في هذا السياق عادة ما يخرج الكثيرون ليتحدثوا عن الثمرة التي سيجنيها سكان الفنادق مقابل تهميش من ضحوا. والحق أننا لو قبلنا تحكيم هذا المنطق، فسيكون الشهداء هم أكبر الخاسرين. وفي الثورات عموما يتكامل حملة السلاح مع السياسيين والإعلاميين من دون أن يغطي أحد على أحد. ويبقى التقدير الحقيقي للجهد بيد الشعب بعد ذلك، وليس في سياق صراع على السلطة يطيل أمد المعاناة.
إذا أصرَّ كل طرف على أخذ حصته من الكعكة بما يليق بتضحياته، فلن يصل الناس إلى نتيجة وسيتسمر الاحتراب سنوات وسنوات، لاسيما أن كل طرف سيقدر تضحياته على نحو لا يقره الآخرون.
ثم إن المرحلة الانتقالية في أية ثورة لا تعني نهاية المطاف، لاسيما أنها ثورة شعبية تريد الحرية والتعددية وليست انقلابا عسكريا، والنتيجة أن الناس هم من سيحكمون تاليا في انتخابات حرة. أما الأهم فهو أننا إزاء بلد مدمّر سيحتاج سنوات طويلة من إعادة البناء، والمسؤولية فيه ابتلاء أكثر منها ميزة تستحق الاقتتال عليها.
الحكومة الانتقالية تشكل ضرورة لترتيب الوضع وجلب المساعدات لإعادة الإعمار، ومن دونها لن يستتب الأمر، وفي حال أصرت بعض قوى الثورة العسكرية على رفض الحكومة الانتقالية التي سيشكلها الائتلاف الوطني، فإن الصراع سيستمر طويلا، لاسيما أن تلك القوى ليست جسما واحدا يمكن حسم تمثيله للثورة.
من المؤكد أن تلك القوى وممثليها يجب أن يكونوا حاضرين في سياق ترتيب المرحلة الانتقالية، لكن تقدير هذا الحضور ينبغي أن يخضع للتواضع وروحية التوافق، وليس المغالبة والتلويح بالسلاح.
ليست لدينا وصفة سحرية لحل المعضلات التي ستواجه الوضع بعد سقوط النظام، لاسيما أن سيناريو السقوط لم يُحسم بعد، لكن ما ينبغي أن يتذكره الجميع هو أن من سيصر على العناد واستمرار الصراع هو الذي سيسخر ثقة الناس، لاسيما أن أحدا لن يتمكن في نهاية المطاف من فرض رأيه على شعب واعٍ ومثقف يتميز بقدر لافت من التعددية الطائفية والعرقية، ووحدها الانتخابات الحرة هي ما سيحسم الموقف في ثورة قامت أصلا من أجل الحرية والتعددية. أما الحريصون على الهوية الإسلامية لسوريا، ونحن منهم، فيجب أن يثقوا في الشعب من جهة، في ذات الوقت الذي يدركون فيها أن التدرج هو الأولى، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ندعو الله أن يعين المخلصين على عبور هذه المرحلة الصعبة بأفضل السبل الممكنة. ( الدستور )