محاولة انتحار على رصيف «الفوسفات»

لم استطع، امس الاول، ان امنع دمعة تدحرجت من عيني بلا استئذان، كان المشهد مؤلما حقا، عشرات الرجال الكبار في السن يعتصمون امام مبنى شركة الفوسفات وسط عمان، قوات الدرك تحاول ان تضبط الاعتصام لكي لا “يسد” الشارع الضيق، فجأة يقفز رجل تجاوز الستين من العمر، ويتمكن من “الافلات” من سلسلة رجال الحماية ويندفع بسرعة نحو الشارع.. يبدو ان سائق السيارة كان منتبها، توقف فورا لكن لم يشفع ذلك للسيارات الاخرى ان تتدارك “الصدام” به، كانت الاضرار المادية خفيفة، ولولا لطف الله لذهب الرجل تحت العجلات.
صورة الرجل ما تزال تطاردني، سألت نفسي: لماذا فكر بالانتحار؟ ثم ما الذي يدفع هؤلاء الرجال بعد هذ العمر الطويل الى الاعتصام؟ اهو الشعور بالظلم؟ ام لقمة العيش؟ الخوف من المستقبل ام الاحساس بمرارة الحياة؟
وراء هذا الرجل – وربما غيره ايضا- قصص واسرار قد لا نعرفها، ربما يكون عنوانها “الجوع” او “المظلومية” او “الغربة” او “اليأس” لكن ما نعرفه انه –رفقاء دربه- امضوا سنوات شبابهم في “المناجم” هناك يتنفسون “الغبار” ويأكلون الخبز مبللا بالتعب، هناك كانت احلامهم صغيرة: الستر وتعليم الاولاد، بيت متواضع وتأمين ما يلزم من علاج، لم يفكروا –ربما- بأن العمر يمرّ سريعا وعندها يكتشفون بأنهم بحاجة لمن “يرعى كهولتهم” ومن يرعى هذه الكهولة غير “الشركة” التي افنوا عمرهم في خدمتها.
حسنا، على امتداد عامين اغلقنا لواقط استقبالنا امام “حراكات” الشباب في الشارع، ربما لم نفهم هذا الحماس المتدفق او لا نريد ان نفهمه، ربما اننا اعتبرناه جزءا من هذا المشهد العربي المضطرب “بفورة” الشباب، لكن لماذا اغلقنا اجهزة استقبالنا عن “حراكات” هؤلاء الرجال الكبار في السن، تنقصهم “الحكمة” لكي لا تأخذ “صراخهم” على محمل الجد، هل وصل بنا “العقوق” لدرجة “انكار” تعب هؤلاء ومعاقبتهم على كل حبه “عرق” تصببت منهم وسط غبار المناجم.
حين يندفع بعض الشباب الى “الانتحار” افهم معنى اليأس” وحين اسمع صرخاتهم في الشارع افهم معنى “غياب العدالة” وحين احدّق في وجوههم البريئة ارى صورة “سبعيني” يلقي بنفسه امام عجلات السيارات، كيف امنع نفسي من الاحساس “بالعجز” وبالخوف ايضا امام صورة “رجال تحت الشمس والبرد ايضا” يصرخون ولا يسمعهم احد.
سيقال لي: اخذوا حقوقهم بالكامل وزيادة، مطالبهم تكبد الشركة ملايين الدنانير، او ربما “دعوهم في الشارع حتى يملّوا”، سيقال ايضا بأن “الشركة” تعاملت معهم “بحكمة” (تحيا الحكمة) وبأن مكافأة الخدمة التي اخذوها ووقعوا عليها انهت علاقتهم مع الشركة، فليذهبوا “اذن” الى المحكمة على حساب الشركة..... هذا الكلام اعرفه، لكن ما يعنيني –فقط- هو صورة الرجل وهو يقفز بما تبقى لديه من عزم للشارع لكي يريح ويستريح.. ما الذي دفعه الى هذا المصير؟؟ وما الذي دفع العشرات الى الوقوف على الرصيف عشرات الايام؟ هل جاءوا “للنزهة” والاستجمام؟؟.. او للمطالبة بحقوقهم التي شعروا بأنها ضاعت وسط الزحام؟؟؟ ( الدستور )