تتنافس القوى المتصارعة في الساحة السياسية على الأغلبية الصامتة. ويحاجج الفرقاء بعضهم بعضا بأن الأغلبية لم تقل كلمتها بعد، ظنا من كل طرف أنها في صفّه، مؤمنة بأفكاره وقضيته.
فمن ناحية، نسمع حكومات متعاقبة تستخدم "الأغلبية الصامتة" لتقوية مركزها، وتؤكد غير مرة أنها راضية بما أنجزته لها أو ما "اقترفت أيديها"، ظنا منها أن هذه الأغلبية تؤيدها، وتقف إلى جانبها في معركة الإصلاح.
وفي حججها، تقول الحكومات إن الصامتين معها بلا شك وإن لم يعلنوا اصطفافهم بعد، لأن همهم الأول والأخير هو الأمن والأمان وما تيسر من رزق، سواء كان يكفي لعيش كريم أم لا.
المعارضة والقوى السياسية تلعب ذات اللعبة وتقلد الحكومات؛ فتجزم أن الغالبية في صفها، ومؤمنة بمطالبها السياسية، ومنحازة لها بدون أدنى شك في كل ما تفعل وكل ما تقول. وفي هذا خروج عن الواقع، وشطط سياسي مصلحي بشكل كبير.
الطرفان في النهاية يتنافسان على أغلبية صامتة غير مكترثة، لإدراكهما أنها ورقة الحسم في المعركة الدائرة منذ زمن، لكنّ كلا الطرفين مخطئان.
والحقيقة أن الأكثرية الصامتة لم تقل كلمتها بعد، وغير معنية بالصراع الدائر بين الفرقاء، وغارقة حتى أذنيها في تحصيل لقمة العيش وتأمين متطلبات الحياة. فهي غير مكترثة بطرفين يتنازعان على السلطة، وكل محاولات الأطراف المتصارعة لم تنجح في جرها إلى ساحة التنافس.
ليس اتهاما، لكن النتيجة واضحة. فما فعلته المعارضة والدولة أخفق في الاستحواذ على انتباه الأغلبية. فالحكومات والبرلمانات لم تقترب من مشاكلها يوما، وكان آخر "همها" الحصول على رضا هذه الأغلبية؛ فكل ما فعلت وما ستفعل لن يرضي طموحات الأغلبية.
والمعارضة لعبت نفس الدور لكن بشكل مختلف؛ فهي من رفع شعارات كثيرة تغري الأغلبية الصامتة، لكنها لم تفعل شيئا طوال عقود لتحقيقها، سوى عقد الصفقات مع السلطات وجني المكتسبات، وأيضا على حساب الأغلبية الصامتة.
بالضرورة، الأغلبية ذات الصوت المنخفض غير راضية عن الطرفين من أصحاب الأصوات العالية، ولا تؤمن بقدرة أي منهما على إحداث تغيير في حياتها؛ فلا هي تثق بحكومات طالما قصّرت في واجباتها، ولا هي مع معارضة باعتها عند أول صفقة سياسية.
الأغلبية الصامتة تريد العيش بسلام، بعيدا عن تنافس السياسيين وطموحاتهم في السلطة، وهي تحلم بأمن وأمان، وكرامة ولقمة عيش غير مغمّسة بالذل؛ تريد شعورا بالطمأنينة على حاضر صعب ومستقبل ضبابي.
عدم انحياز الأغلبية الصامتة إلى أي من أجندات المتصارعين، دلالة على أنها ترفض الانصياع لأصحاب الصوت العالي من الطرفين.
الثقة في الموالاة والمعارضة ما تزال مفقودة لدى العامة، التي تؤمن أن الحريص على مصالحها وحقوقها مفقود. وهي وإن لم تقل كلمتها بعد، إلا أنها أذكى من كل الوجوه على الساحة، وقادرة على تقييم الجميع. فهي تعرف تماما أن الباحثين عن السلطة هم من حققوا المكتسبات، فيما ضاعت حقوق الأغلبية على أرصفة ساحات المعارك.
الظفر بهذه الشريحة لم يحسم بعد، ودفعها إلى الاصطفاف بحاجة إلى ذكاء استثنائي، يتلمس ما تريد ويستجيب له.
لحظة الحسم لم تأتِ بعد، ولم يقدّم أي طرف مبررات مقنعة تجعل الأغلبية الصامتة تقول كلمتها وتحسم خياراتها، فمن يا ترى سيفعل ذلك؟
بالمناسبة، آمال وأحلام الأغلبية سهلة ومرنة. ويمكن لمن يدركها أن يحسم المعركة بسهولة إن هو أنصت لنبضها، وللأمانة ثمة فريق أفرزته الظروف الصعبة، وخرج عن صمته ليعبر عن حاجات الأغلبية الصامتة، لكنه ما يزال محصورا بين نخب مسيسة. ( الغد )