مشكلة تسويق النتائج الزراعية

تم نشره السبت 08 كانون الأوّل / ديسمبر 2012 01:23 صباحاً
مشكلة تسويق النتائج الزراعية
د. رحيّل غرايبة

ي أواخر الستينيات، وفي قرية منعزلة تقع في قعر الوادي المنحدر بقسوة من مغاريب عجلون نحو غور وادي اليابس، المليء بأشجار النخيل والليمون والتين والعنب، وفي الأكواخ الطينية المتناثرة حول الماء، كان يتجمع المزارعون في بيت والدي رحمه الله، يحتسون القهوة السادة، ويسرد كل واحد منهم قصة يومه التي تفيض بالقسوة والمعاناة، فقبل سماع أذان الفجر كانت "البك أبات" جمع "بك أب" وهو الاسم الذي يطلق على الشاحنة الصغيرة التي يعبئون فيها صناديق الخضر، كانت تنطلق تحمل العمال من أجل لملمة محصول البندورة أو الباذنجان، ومن ثم تنطلق نحو "الحسبة" سوق الخضر في آخر اليوم، وبعد رحلة عذاب طويلة، يرجع "البك أب" من دون أن يستطيع بيع حمولته، فيضطر المزارع لتفريغ الحمولة أمام الحيوانات أو في أحد الأودية، من أجل الحصول على "العبوات الفارغة" بعد خسارة المحصول، وخسارة أجرة العمال ووقود السيارة، و من دون أن يحسب خسارة جَهده وعرقه، وجَهد زوجته وأبنائه الذين ينخرطون جميعاً في هذا العمل الشاق..

منذ ما يزيد على خمسة وأربعين عاماً، ومنذ تفتحت عيناي على الحياة وعيت على مشكلة كانت تؤرق المزارعين في غور الأردن، وكانت مادة الحديث الدائم والمستمر، عندما كانوا يجتمعون في كل ليلة، عقب سلخ يوم حافل من حياتهم في معاناة لا تنتهي في كيفية تسويق نتاج "البندورة"، و"الباذنجان"، و"البطاطا" و"الكوسا" وبقية أنواع الخضر التي يعرفها المزارع الأردني البسيط.

ها نحن في عام "2012" أقرأ في الصحف اليومية الصادرة يوم الخميس 6 /12 /2012 عنوان: "تشكيل لجنة لمعالجة معضلة تسويق الباذنجان". ما جعلني أعود بذكرياتي الحزينة لهذه المشكلة الممتدة على طوال نصف قرن من الزمن، التي لم تجد طريقها نحو الحل حتى هذه اللحظة.

خلال نصف القرن المنصرم، قامت دول، وسقطت دول، رحلت امبراطوريات وظهرت امبراطوريات، وتم الصعود إلى القمر، وتم انزال المسبار الأمريكي على المشتري، وتم اختراع الحاسب الالكتروني، وتطوير شبكة الاتصالات، واستحداث الخلويات، والشبكة العنكبوتية، والطائرات التي تقصف أهدافها من دون طيار في جبال أفغانستان وهضاب باكستان وصحراء اليمن، وعدد لا يحصى من الاختراعات والحوادث التي يعجز العقل عن تخيل حجم الفجوة بين ذلك اليوم واليوم، والمزارع الأردني ما زال يندب حظه ويتساءل كيف وأين يستطيع أن يبيع نتائج أرضه، التي قضى عمره وأهدر ماله في زراعتها والعناية بها وحمايتها وقطفها..!!

كيف استطاعت "إسرائيل" المحتلة، أن تجعل من المزارع "الإسرائيلي" رقم واحد على مستوى العالم، انتاجاً وتطوراً، وتسويقاً واسعاً على مستوى أوروبا والعالم، وغدت الزراعة عندهم من أعظم مصادر الانتاج القومي، بينما غدت الزراعة عندنا رمزا ًللفقر والبؤس والمعاناة، والتراجع إلى الخلف والتدهور المريع، ولم تستطع وزارة الزراعة وكل الجهات ذات الاختصاص أن تحل مشكلة المزارع الأردني الكادح الذي يعد المنتج الوحيد على مستوى الدولة.

لقد تم انشاء (50) جامعة في الأردن، وإنشاء عدد كبير من كليات الزراعة، وتخريج آلاف المهندسين الزراعيين، وأصحاب الشهادات في كل المستويات، وأساتذة ومراكز أبحاث، وأموال وبعثات، ومنح وندوات ونقابات وانتخابات، وما زال المزارع المسكين يبحث مع المسؤولين معضلة تسويق البندورة والباذنجان.

أقف حائراً أنظر في محاجر عيون المزارعين التي تجمد فيها الدمع، وأتساءل معهم عن العجز المتراكم الذي يبعث على الشك والريبة، في القدرة المتنامية على صناعة الفقر والتخلف، وإشاعة الاحباط واليأس في هذا القطاع الحيوي المهم، وأتساءل عن الدور المفقود للحكومات ووزراء الزراعة المتعاقبين ووزراء الخارجية في البحث عن الأسواق في الاقليم القادرة على استيعاب انتاجنا المتضائل، وأين دورهم في تطوير الانتاج الزراعي وتحسينه ليكون منافساً على مستوى العالم.

لكم الله أيها المزارعون المنغرسون في الطين والوحل، وتحت أشعة الشمس اللاهبة، التي تشوي الوجوه في الصيف، وفي مواجهة الصقيع المدمر لمزروعاتكم غير المحميّة في الشتاء، من أجل المحافظة على بقية من مروءة متطايرة على ضفاف الأودية والمنحدرات ما زالت تحتفظ ببعض الذكريات الجميلة وبصيص من الأمل لم ينقطع . ( العرب اليوم )



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات