الفقر ضيف ثقيل على الأردنيين

الفقر ضيف ثقيل الظل على البشريّة كلها، وليس على الأردنيين فحسب، وهو ضيف تاريخي قديم، عانت الإنسانية من ظلّه الثقيل عبر كل مراحلها، وفي كل أماكن رحيلها وترحالها، وهو يتنقل من مكانٍ إلى مكان على ظهور الفاسدين، ومصاصي الدماء، ويتعقب آثار المستبدين في الأغلب الأعمّ من باب المرافقة والموافقة وليس من باب المفارقة.
الفقر عدوّ لئيم وقاسٍ، رغم التعايش معه، وسوف تبقى المجتمعات البشرية في حرب دائمة وطويلة معه، وتحاول تقليص المساحات التي ينتشر بها، ومحاصرته عبر وسائل جماعية وفردية، ولكنّها لا تستطيع القضاء عليه قضاءً مبرماً، ويروى أن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"؛ ممّا يدل على مستوى المعاناة والمكابدة مع هذا العدوّ الشرس، وصعوبة التخلص منه.
الفقر يصر على مصادقة الأردنيين مصادقة أبدية، ويحاول أن يستوطن أرضهم بطريقة مؤبدة، ومن المفارقات العجيبة أنّه يعمل بطريقة صامتة، ويستخدم القانون أحياناً ويختبئ خلف الشرعية ، ولكنه بالوقت نفسه قرين للظلم الإجحاف، المتلفح بأردية السلطة والنفوذ، ويحاول أن ينغرس في الأرض وينبت كما ينبت الفطر، وينتشر كما ينتشر ويتسلل إلى المحافظات والقرى، ويقف على أبواب القطاع العام كالحارس اليقظ.
المصيبة التي تستعصي على الفهم أن يصبح الفقر صناعة، وأن يعمد بعضهم إلى إيجاد مصانع لإنتاج الفقر المعلّب، الذي يتمّ تغليفه بطريقة منمقة، ويستتبع ذلك شركات تسويق متخصصة، ومدراء وأتباع، ووسائل وأدوات وواجهات، ومراكز تدريب وحراسة.
من الملفت للانتباه أنّ الأموال زادت أضعافاً مضاعفة، والميزانيات أصبحت بالأرقام الفلكية، ودخلت منازل الترليونات والمليارات، عالم الأرقام والحسابات، التي تعجز العقول البشرية عن عدها وحصرها، ولا بدّ من استنبات التكنولوجيا الرقمية من أجل امتلاك القدرة على العدّ والجمع والطرح، وكثر عدد الأغنياء في العالم وكثر أصحاب المليارات الشخصية، وفي الوقت نفسه تزداد مساحات الفقر المتوحش، ويكبر غوله المرعب ويتضخم، وأصبح يهدد الملايين من البشر ويهدد الدول والامبراطوريات الكبيرة، ويسابق الزمن عبر المساحات الممتدة من المحيط إلى الخليج ومن جبال طوروس شمالاً إلى أعماق صحراء إفريقيا جنوباً..!
لماذا نعجز عن مواجهة الفقر، ولماذا نعجز عن تقليص مساحات انتشاره رغم كثرة الأموال، وانتشار الجامعات والمدارس؟، هذا السؤال يجب أن يكون امتحاناً دائماً لكل صاحب مسؤولية؛ لأنّ البديهيات تقول أنّ كل بطنٍ أجرب يقف خلفه طابور من الفقراء يزيد عددهم على الألف، وكل فاسدٍ كبير يتربع على "طبعة مسمار كبير" يتمّ دقه في لوح ساحق فوق بلدة أو قرية كاملة، وكل مستبد يتمدد على ريع معصرة تحول الأجساد البشرية إلى مسحوق دموي تتغذى عليه نخب اللئام المتطفلة على عرق الكادحين.
الفقر لا يولد إلاّ حيث يوجد العجز، ولا ينتشر إلا حيث يتمدد الجهل، والفقر الحقيقي هو فقر العقول وفقر الإرادة، وفقر المروءة وضحالة الأدب، ولا يغرنّكم كثرة الجامعات وكثرة الخريجين وكثرة أصحاب الشهادات، حيث أصبحت الجامعات مصانع لتعليب الفقر وتميط الجهل، وتدمير الإرادة، واستنبات العجز وتجميل التخلف في ظلّ انعدام رؤية نهضوية شاملة!!.
نحن بحاجة إلى هزّة عنيفة، وصرخة مدويّة؛ لعلها تفلح في إيقاظ العقول المخدّرة، والهمم النائمة، والإرادة المكبلة، قبل الانزلاق نحو الهاوية، والبقاء في قبضة الفقر المستحكمة.
( العرب اليوم )