المعركة في دمشق .. و«البيان» من جنيف

لن نصدق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (مع كل الاحترام)، وهو ينفي أن تكون بلاده قد بحثت مع واشنطن في مصائر الرئيس السوري بشار الأسد..إن لم تبحث الدولتان العظميان هذه القضية، فما الذي تبحثانه إذاً؟ وما معنى وقيمة كل هذه الاجتماعات الماراثونية، إن لم يكن الأسد في صدارة جداول أعمالها؟
كنا سنوافق الوزير الروسي المخضرم القول لو أنه نفى أن تكون الدولتان قد توصلتا لاتفاق بهذا الشأن..ونحن نرجح أنهما لم تقررا بعد مصير الرئيس السوري..ولكن أي بحث في الأزمة السورية الآن، على أي مستوى وفي أي محفل، سيكون خالٍ من المضمون، بل ومضيعة للوقت، ومن باب “لزوم ما لا يلزم” إن لم ينصبّ أساساً على أسئلة الانتقال السياسي، وسؤال المليون منها: ما هو مستقبل الأسد ؟.
ولا نحسب أن “قوة الحجة” هي التي ستحسم الجدل بين العملاقين الدوليين..”حجة القوة” هي التي ستقرر في نهاية المطاف، ولها ستكون “الكلمة الفصل” في هذا النزاع المديد والمرير...و”حجة القوة” يجري اختبارها بشكل مؤلم فوق معظم المناطق السورية، إن لم نقل جميعها، بيد أنها تتركز منذ عدة أسابيع في دمشق وحولها، ومن المتوقع أن يستمر الحال على هذا المنوال، بل وبتصاعد ملحوظ في الأيام والأسابيع القليلة القادمة..وستكون اجتماعات لافروف – كلينتون أو من ينوب عنهما ويمثلهما في جنيف أو غيرها، بحضور الإيراهيمي أم بغيابه، “رجع صدى” لأزيز الرصاص وانفجارات القذائف والصواريخ والبراميل والسيارات “المُلغمة”.
المعارضة المسلحة، بقرار ذاتي منها أو بتوجيه من الخارج (غرفة العمليات الإقليمية – الدولية) في تركيا، قررت نقل المعركة إلى قلب دمشق، بقية الجبهات مرشحة إما للتهدئة الاختيارية المتبادلة، أو للتسخين المضبوط والمحدود...في المقابل، سلك النظام تكتيكاً دفاعياً، طائعاً كان ومُستدرِجاً أم كارهاً ومُنهَكاً، وهو قرر الدفاع عن العاصمة من دون أريافها وغوطتها، حتى أن مصادر سورية مطلعة جداً، نقلت لنا أن حواجز الجيش الحر تجلس مقابل الجيش النظام في حلب من دون أن يطلق أحدهما النار على الثاني (التهدئة الاختيارية)، فيما جميل الحسن رئيس الاستخبارات الجوية السورية أنذر بحرق الغوطة على من تبقى فيها من مدنيين وعسكريين، إن قررت كتائب المعارضة التقدم صوب دمشق، لكأنه بذلك يرسم خطوطاً جديدة للتماس بين الخندقين، تماماً مثلما ارتسمت في حلب.
إن ظل الحال في دمشق وغوطتها وريفها على هذا المنوال (وهذا مُستبعَد)، فإن من المتوقع لمفاوضات جنيف وما سيلحق بها من جولات تفاوضية بين العملاقين، أن تطول..ولهذا السبب فليس من المتوقع لحال دمشق أن يظل على حاله...وسنكون أمام جولات من التصعيد والتهدئة المتعاقبة ميدانياً المضبوطة على إيقاع التقدم والتعثر في مفاوضات جنيف وحواراتها.
إن ظل الأسد على عناده، وظل الروس على موقفهم القائل: دعوا الأمر للشعب السوري وصناديق الاقتراع، فإن المعارضة وداعميها الإقليميين والدوليين، سيظهرون “نزقاً” وتسرّعاً بائنين (تفحصوا ملامح رئيس الوزراء القطري وهو يتحدث للصحفيين)، وسينعكس ذلك على خطوط النار في العاصمة، مثلما سينعكس في كشوف المال والسلاح التي ستتدفق بغزارة، كماً ونوعاً..لكن إن لاحت في الأفق بوادر استعداد لدى الرئيس السوري، لترك منصبه أو ترك صلاحياته لغيره، فمعنى ذلك أن التراجيديا السورية مرشحة لأن تُسدل الستار على واحد من أشد فصولها دموية، ولا أقول فصلها الأخير، والسبب ببساطة أنه من الحمق إسقاط السيناريو العراقي من حسابات الأزمة السورية، وللتذكير فقط، فقد قُتل من العراقيين بعد سقوط صدام حسين، أضعاف أضعاف ما قُتِّل منهم بعد سقوطه وإعدامه.
المسألة الآن، كما آلت منذ عدة أشهر، تكاد تنحصر في مستقبل الرئيس الأسد الشخصي..هل سيتنحى أم يتخلى عن سلطاته لحين إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة...ولمن سيتخلى، لحكومة انتقالية من المعارضة أم لحكومة انتقالية مشتركة، تضم إلى جانب قيادات بارزة من المعارضة، ممثلين عن النظام (من غير الملوثة أيديهم بالدماء وفقاً للكليشيه المعهود)، وفي هذا السياق، يجري في الأوساط السورية والدولية تداول أسماء بعضها معروف ومطروق، وبعضها يُطرح لأول مرة، ومن بين هؤلاء سفير سوري في دولة مجاورة لسوريا، فضلاً عن الشرع وشعبان والمعلم وزيتونة و”الرياضين” سيف وحجاب، ومناف طلاس ومصطفى الصباغ الذي يُقال بأنه سيؤسس لـ”حريرية جديدة” في سوريا، على غرار رفيق الحريري ومن خلفه من أبنائه وأقاربه وأنصاره، ولا نهاية لهذا القائمة التي تتجدد يومياً.
قد لا يكون الروس والأمريكان قد حسموا الأمر الآن، لأن كل فريق منهم يعتقد أنه “ما زال في الوقت بقية”، الروس يراهنون على الحكومة الانتقالية المختلطة، وعلى بقاء الرئيس بعد تفويض صلاحياته، وهم سيستمرون على موقفهم هذا ما دام الأسد قادرا على الصمود في دمشق..فيما الأمريكان الذي نزلوا (لأسباب تتعلق بأمنهم) عن مطلب إسقاط النظام، يريدون رحيل الأسد أمس قبل اليوم، وغداً وليس بعد غدٍ..بيد أنهم لا يريدون التفريط بـ”كل النظام” وتحديداً مؤسستي الأمن والجيش، حتى لا تجابه واشنطن في “سوريا ما بعد الأسد” ما واجهته في “ليبيا ما بعد القذافي” و”عراق ما بعد صدام حسين”...وسوف يتعين على الشعب السوري، أن يدفع من حيوات أبنائه وبناته، بضعة آلاف من الشهداء والضحايا قبل أن تتغلب “حجة القوة” على “قوى الحجة”.
( الدستور )