الثقافة الإصلاحية: الغائب الحاضر

تفقدت إصدارات المشروع الرائد الذي تتبناه وزارة الثقافة "مكتبة الأسرة الأردنية"، لهذا العام، والتي تجاوزت ثلاثين عنوانا، على أمل أن أجد ترجمة فعلية للإرادة الإصلاحية للدولة، ممثلة في توجيه هذا المشروع التنموي الثقافي في هذه اللحظة الفاصلة والدقيقة في تاريخ الدولة الأردنية، نحو تنمية ثقافة إصلاحية ذات أجندة واضحة، تنتصر للخيارات الديمقراطية الوطنية بأبعادها السياسية الاجتماعية، وتسد فجوة معترفا بها من خلال ما نعانيه من فقر في الثقافة المجتمعية على صعيد الديمقراطية. وللأسف، لم أجد بين العناوين المنشورة ما يخدم هذا الهدف، بل كررت إصدارات هذا العام ما تعودنا عليه من "كتب محترمة" يمكن لأي دار نشر تجارية إصدارها.
الثقافة الديمقراطية المتصالحة على الخيارات الكبرى تُعد مطلبا إصلاحيا لا يقل أهمية عن تشريعات الإصلاح السياسي، كما لا يقل أهمية عن إجراء انتخابات نزيهة، ولدينا شواهد يومية في المحيط العربي. وعلينا أن لا ندفن الرؤوس في الرمال؛ فالأزمة المجتمعية التي تواجهها مجتمعات الربيع العربي، بعدم القدرة على استيعاب الديمقراطية، والتكيف الصعب والمؤلم مع الممارسات السياسية الجديدة، كما يحدث في مصر وليبيا واليمن وغيرها، ليست قابلة للتصدير، بل هي متأصلة في الثقافات المحلية للمجتمعات العربية، وكل منها يعبر بطريقته عن هذه الأزمة.
مشروع مثل "مكتبة الأسرة الأردنية" هو أداة من أدوات الدولة في قيادة التغيير الثقافي، وتحديدا في المراحل الحرجة والدقيقة، حينما تتصرف الدولة بعقلانية سياسية تعبر عن النفع العام، وتفتح المنافذ للتغيير، والتكيف مع التغيير.
تحتاج مثل هذه المشاريع إلى رؤية مختلفة وخلاقة، وتحديدا في حالة مثل الأردن الذي يؤمن بالتطور والإصلاح التدريجي، وليس بالتغيير الثوري والقطيعة. وكنا ننتظر أن يخصص هذا المشروع، ضمن خطة تستمر على مدى ثلاث سنوات على الأقل، لإصدارات تساهم في تحولات ثقافية تهيئ المجتمع الأردني لاستيعاب برلمان جديد، وتحضره لدور قوي للمعارضة السياسية وللتعامل مع حكومات برلمانية؛ أي تحولات ثقافية تلامس الحياة اليومية وتمد الناس، في المدن والأرياف والبوادي، بمعان جديدة حول القيم السياسية الكبرى التي تحتاج إليها الديمقراطية الوليدة، وتحتاج إلى تكريسها بقوة الثقافة قبل أي شيء آخر، وبعيدا عن الحشد والتعبئة الإعلامية الرخيصة حول القيم والمعاني الوطنية الكبرى؛ مثل الرموز الوطنية، والمصلحة العامة، والهوية، ومكانة القانون.
ربما لم يعد للكتاب مفعول السحر في قيادة التغيير، لكنه نافذة من عدة نوافذ تقود التكيف الثقافي على المديين المتوسط والبعيد. وعلى الرغم من أن الكتب قد فقدت الكثير من سحرها بوجود المنافذ الإلكترونية، بكل ما توفره من انتشار وجاذبية وتعدد، إلا أن الكتاب ما يزال له دور أساسي في الثقافة العربية السياسية، وما يزال هو المصدر الأساسي لتغذية المنافذ الإلكترونية على الشبكة، وهو الأساس في تشكيل وعي قادة الرأي الذين يعدون موئلا للناس في النقاشات العامة.
بقيت السلطة تمثل للمجتمعات العربية، على مدى قرون، السجن والنار والسوط والأفعى، فتصوروا ردود الفعل حينما نلقي بهذه الأسواط والأفاعي في أحضان الناس مرة واحدة! فالتحولات الديمقراطية تحتاج إلى تكيف ثقافي عميق، وأن تبدأ اليوم أفضل من أن تنتظر عقودا من الفوضى واللعب بأعصاب الناس ومصائرهم.
( الغد )