الشـرع إذ يخرج عن صمته

المطالعة الشاملة للأزمة السورية، التي قدمها نائب رئيس الجمهورية العربية السورية فاروق الشرق عبر صحيفة “الأخبار” اللبنانية، تستحق القراءة والتأمل، وأحسب أن الرجل لخص بعمق وكياسة، ومن موقعه، الحكاية السورية من ألفها إلى يائها، راسماً بدقة طريق الخروج بسوريا من عنق الزجاجة، لا ندري ما إذا كان الشرع يصدر ذلك عن موقف شخصي، وإلى أي حد تلتقي مواقفه وتفترق عن مواقف رئيسه الذي امتنع عن الكلام المباح منذ رابع خطاب يلقيه في أشهر الأزمة الحادية والعشرين، لا ندري إن كان بذلك يعبر عن وجهة نظر “تيار داخل النظام”، من هو هذا التيار، وما هو حجمه وتأثيره؟ من دون مكابرة ولا مداورة قال: أن الخيار الأمني- العسكري سقط، لا النظام قادرا على استئصال المعارضة، ولا المعارضات على تنوعها، قادرة على إسقاط النظام، مآلات الحل العسكري الذي يصر عليه الجانبان حتى الآن، والكلام بحرفيته تقريباً للشرع، هي الخراب الشامل لسوريا وطناً ومجتمعاً ودولة وكيان.
لم يتوقف الشرع عند “نظرية المؤامرة” التي لجأ إليها النظام بوصفها الأداة الوحيدة لتفسير ما يجري في سوريا، لكن ثمة “مؤامرة” في سوريا وعليها، الشرع تحدث أيضا عن مسؤولية النظام، بعض أركانه الأساسيين، فيما آلت إليه سوريا: حزب متكلس وجيش عقائدي وأجهزة مترهلة وفساد متفشٍّ وقبضة أمنية، إلى غير ما يقرأ في سطور و”ما بين سطور” المقابلة الهامة.
ولأن الشرع ينأى بنفسه عن “تهمة” الدفاع عن فرد أو نظام، ويضع نفسه في خندق الدفاع عن سوريا، فقد تقدم بحل، يجمع المخلصون لسوريا على أنه طريق الخلاص الوحيد: حل سياسي، سوري بامتياز، يستند إلى التوافق الإقليمي والدولي، حل ينعقد لواؤه الآن على الأخضر الإبراهيمي، الذي وإن كان بطيئاً في أدائه -وفقاً للشرع- إلا أنه وحده من يحمل شعلة الأمل للسوريين في نهاية نفق أزمتهم المظلم.
لم يقل الشرع أن الحل السياسي آتٍ لا محالة، سوريا ما زالت بعيدة عن الحل السياسي، النظام ما زال يؤمن بأن الحل السياسي يأتي بعد استئصال الجماعات المسلحة -كما يروي الشرع- وهذا من منظوره أمر غير قابل للتحقيق، وثمة في المعارضات من يعتقد أنه قادر على الإطاحة بالنظام، وهذا متعذر أيضاً، ولن يبق في سوريا إذا استمرت المواقف والخنادق على حالها، سوى سيناريوهات الفوضى والخراب والاحتراب الأهلي المكلف للغاية.
لم يبرئ الشرع أحداً في الداخل والخارج من وزر الدم السوري الذي أريق بغزارة في الأشهر العشرين الفائتة، بيد أنه وهو السياسي المخضرم، يعرف تمام المعرفة أن المتسببين في الأزمة هم الأقدر على حلها، ولهذا اقترح توافقاً إقليميا ودوليا لا يقصي الدول التي “تآمرت” على سوريا، أقله من باب درء الضرر ووقف العبث والتآمر.
رغم الارتياح والترحيب بموقفي إيران وحزب الله الداعم لسوريا، وبالأخص ما يصدر عن “المرشد الأعلى” للثورة الإسلامية وزعيم حزب الله، إلا أن كلام الشرع عنهما بدا عاتباً ولائماً، فقد كان بمقدورهما أن يفعلا أكثر لوقف إراقة الدم السوري، هنا يتوقف الشرع عن الكلام المباح، والمأمول أن يتأمل كل من خامنئي ونصرالله جيداً في “بقية الجملة” التي لم يقلها الرجل الثاني -رسمياً على الأقل- في النظام السوري.
الحل يبدأ بوقف إراقة الدماء، هذه نقطة البدء أيضا عن الإبراهيمي، ويتعزز بنشر قوات حفظ سلام دولية -هذا لم يبح به الشرع- ثم ننتقل إلى تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة (الشرع يقول واسعة)، النظام عاجز عن ممارسة الحكم بطرائقه القديمة ومن دون شركاء جدد وفقاً للشرع، والمعارضة ليست مؤهلة للتغيير الشامل ولا هي قادرة على إدارة مرحلة الانتقال، هذا ما يبشر به الشرع والإبراهيمي وكل صديق لسوريا.
في مواجهة المتعاملين بـ”ثأرية” و”انتقامية” مع النظام السوري، حذر الشرع من المضي في العسكرة والحسم، التغيير في سوريا سياسي بامتياز وهو تغيير سيطاول النظام بمؤسسات وأركانه وآليات عمله ورموزه، الشرع تحدث مطولاً عن مرحلة ما بعد النظام الحالي، من دون أن يقول ذلك صراحة، بل لعله لامس ضفاف الصراحة المطلقة وهو يصف استحالة استمرار الحال أو العودة بعقارب الساعة إلى الوراء.
المؤسف أن الإعلام الذي احتفى بمقابلة الشرع تعمد التعامل معها على قاعدة “ولا تقربوا الصلاة”، الإعلام المؤيد للنظام أخذ المقاطع التي تؤكد استعصاء إسقاط النظام وعجز المعارضة عن فعل ذلك، مكتفياً ببعض الإشادات بروسيا والصين وإيران وحزب الله التي وردت فيها، والإعلام الآخر اقتطف منها ما يؤكد استمساك النظام بخيار الحل العسكري رغم فشله الحالي والمتوقع في حسم المعركة مع المعارضة، بين الخندقين المتقابلين ضاعت “الفكرة الكاملة” التي جاء بها أول حديث لنائب الرئيس الذي أثار غيابه سيلاً لم ينقطع من التكهنات عن موقعه وموقفه ومصيره السياسي والشخصي.
أجد أن في كلام الشرع ما يصلح ويصح في تفسير كثير من جوانب الأزمة السورية، لقد قلنا وقال كثيرون كلاماً مشابهاً، لكن قيمة هذا الكلام أنه يصدر عن الشرع، ومن منزله في دمشق، ومن موقعه كنائب للرئيس، وأجد في كلام الشرع ملامح خريطة طريق للخروج بسوريا من أزمتها، بل وربما يكون كلام الرجل، آخر “الكلام العاقل” الذي يقال في ربع الساعة الأخير الذي يسبق الطامة الكبرى.
( الدستور )