بيروسترويكا مضادة !!

شهدت أياماً من تلك البيروستيرويكا التي اراد غورباتشوف من خلالها اعادة بناء روسيا، وكم كان مثيراً مشهد الطابور من الاوروبيين والامريكيين أمام المحلات التي تبيع الكافيار والتحف الروسية. فكل كائن يبحث عما ينقصه أو يظن بأنه محروم منه، وكما حدث في مصر أيام الانفتاح الساداتي حدث في روسيا حين سادت ثقافة اليانصيب، التي تزدهر عندما يشتد الفقر، ويصبح كل فرد حالماً بأن يصبح مليونيراً خلال اسابيع.
في الحالتين تفاقم الفقر وتراجعت ثقافة اليانصيب، وسخر الروس من البيروسترويكا التي تعني بلغتهم اعادة البناء وسموها اعادة الهدم والتفكيك، وكان العرب في تلك الايام يحلمون ببيروسترويكا عربية على طريقتهم، لكنها تأخرت عن موعدها، فجاءتهم بيروسترويكا اخرى طورت وحدثت وضاعفت من معاهدة سايكس - بيكو، فالسودان اثنان وقد يصبح أربعة، وثمة تضاريس وخرائط سياسية وطائفية جديدة لعالمنا العربي ترسم الآن بالقلم الرصاص وغداً سوف ترسم بالفحم والدم، حيث لا ينفع الحداد ولا يجدي الندم.
وهناك عمليات جراحية من نوع عجيب تجري للافراد والمجتمعات معاً، تلك هي التي يخرج الطبيب فيها من غرفة العمليات ليهنىء الذين يترقبون بنجاح العملية، ثم يعزيهم بوفاة المريض. نعم هناك عمليات تنجح ويموت المرضى، لأن الخطأ لم يكن فقط بالتشخيص بل بعدم الادراك بما يسمى حالات الدمج الدماغي أو الاختلاطات التي تعقب العملية وأحياناً تحدث خلالها عندما يكون المريض مغيباً تحت جرعة عالية من البنج.
حلم الروس في بواكير البيروسترويكا بالجينز والسفر والسجائر الامريكية، وبالورقة الخضراء المستطيلة الساحرة، ثم بدأ تدفقهم الى سائر القارات بدءاً من الرقيق الابيض حتى المانيا وها هي موسكو تحاول منذ دخل بوتين الى الكرملين استعادة المفقود من هيبتها الدولية ومن صورتها في الحرب الباردة.
ان الفارق بين اعادة البناء واعادة الهدم يضيع أحياناً على العين الكليلة أو التي تعاني من القذى والصديد، رغم ان هذا الفارق لا يحتاج الى زرقاء اليمامة للتأكد منه، فأسهل شيء هو الهدم وأصعب شيء هو البناء سواء كان للبشر أو الحجر.
ونحن العرب ترجمنا «سكرو درايفر» الانجليزية الى «مفك» وكان مهنة هذه الاداة هي التفكيك فقط وليس التركيب، ولم أسمع أحداً ذات يوم يسمي هذه الأداة الا بالمفك، لأن من يستهلك ولا ينتج لا علاقة له بالتركيب، وهكذا انقلبت الآية, واصبح المثل الذي تعلمناه في طفولتنا وهو من جدَّ وجد (من هد وجد)!
ما يحدث الآن عربياً هو المبارزة بالمعاول للهدم، أما البناء فأمره بيد من يملك الامتياز وهو ليس من الحديد أو الاسمنت بقدر ما هو استراتيجية تأسست على مفهوم التفريق من أجل السيادة وانتهت الى التفكيك من أجل المزيد منه وهو التذرر!
نحن جميعاً أو معظمنا على الاقل حلمنا بالتغيير وأقضّ مضاجعنا كابوس الطغيان والاحتكار السياسي، لكن كيف وبأية معجزة تحول الحلم مرة اخرى الى كابوس فتلك واحدة من ألغاز بلادنا!!
( الدستور )