«الجمهور» لكينغ فيدور: إنه الحلم الجميل فمن أين يأتي الحزن؟

تم نشره الجمعة 21st كانون الأوّل / ديسمبر 2012 01:04 صباحاً
«الجمهور» لكينغ فيدور: إنه الحلم الجميل فمن أين يأتي الحزن؟
إبراهيم العريس

 

في معرض تحليله للمناخ الاجتماعي الاميركي الذي يكمن خلف ذلك النجاح الذي حققه فيلم «الجمهور»، نقدياً على الأقل، عند نهاية عشرينات القرن العشرين، كتب الناقد الفرنسي الراحل كلود بيلي: «كانت الولايات المتحدة عرفت خلال سنوات العشرين، نهوضاً اقتصادياً، سيأتي انهيار وول ستريت في العام 1929 ليضع حداً له. وقبل الانهيار، كان الزمن لا يزال زمن التفاؤل، وإن كانت معالم قسوة الحياة ظاهرة للعيان»، ومن هنا، كانت هناك أفلام عدة أُنتجت في هوليوود، وجعلت من نفسها «صدى لذلك الازدهار المهدد»: «متسولو الحياة» لويليام ويلمان، «في ظل بروكلين» لآلان دوان، «الصاعقة» لكلارينس بادجر وخصوصاً «الجمهور» لكينغ فيدور.

> وعلى هذا يكون «الجمهور» لكينغ فيدور واحداً من أول وأهم الافلام التي غاصت في الواقع الاجتماعي في العالم الجديد مباشرة، ووقفت تتساءل عن الحلم الأميركي الذي كان لا يزال في ذلك الحين مزدهراً. ولم يكن التوجه بالجديد في ذلك الحين على مخرج الفيلم وكاتبه كينغ فيدور، الذي حقق خلال سنوات سابقة فيلماً ضد الحرب بعنوان «العرض الكبير» لقي نجاحاً هائلاً، واعتبرته شركة «مترو غولدوين ماير» المنتجة واحداً من أكبر أفلامها وأكثرها اجتذاباً للجماهير. وهكذا، مسلحاً بالنجاح الذي حققه، قرر فيدور ان يدلي بدلوه في الموضوع الاجتماعي وأن يقول رأيه، بصرياً، هو الذي كان واحداً من أول الذين آمنوا بقوة الصورة، وخصوصاً بأهمية ان تكون للسينما خصوصيتها البصرية ولغتها المفصولة عن لغة الأدب. في ذلك الحين، 1928، كان العهد لا يزال عهد السينما الصامتة، حيث يفترض بالعنصر البصري ان يقول كل شيء. ويمكننا القول هنا انه قد أتيح لكينغ فيدور عبر هذا الفيلم ان يطبّق نظرياته، وحتى حدود التجريب، ذلك ان الشركة المنتجة وفرت له ما يريد، فكان أن حقق «الجمهور» عبر وسائل لم تكن، في ذلك الحين، تقليدية على الاطلاق، بل كانت تعتبر من «سمات السينما الاوروبية الفقيرة»: تصوير في الديكورات الطبيعية، كاميرا خفية تغطى لئلا تحدق فيها عيون السابلة، ممثلون لم يكونوا بعد محترفين، وموضوع مستقى من الحياة الحقيقية، مع اصرار على التخفيف من البعد الدرامي حتى الحدود الدنيا. ونعرف طبعاً ان هذه الوسائل ستكون هي نفسها التي يلجأ اليها لاحقاً رواد المدارس الطبيعية والواقعية، في «الواقعية الجديدة» الايطالية، كما في «السينما الحرة» البريطانية، و «الموجة الجديدة» الفرنسية، وصولاً الى كامل التلمساني وكمال سليم وصلاح ابو سيف وتوفيق صالح في مصر. ومن هنا، يعتبر كينغ فيدور من جانب المنصفين، احد أبرز رواد «الواقعية - الطبيعية» في تاريخ السينما العالمية، وإن كان حقق في مسيرته المتعرجة أعمالاً تنفي عنه هذه الصفة، وأتت تقليدية تماماً.

> ما يهمنا هنا، طبعاً، هو فيلم «الجمهور»، ذلك الفيلم الرائد والبسيط، والسيئ الحظ كذلك. اذ إنه كان، في زمنه، من آخر الأفلام الصامتة، ما جعله يُنسى لفترة طويلة من الزمن، قبل ان يعاد اكتشافه منذ أواسط سنوات السبعين من القرن العشرين، ويعاد اليه اعتباره، ويبدأ حسبانه في لائحة الأفلام العشرين الأكثر أهمية في تاريخ الفن السابع.

> في اختصار شديد، يمكن ان تقول عن «الجمهور» انه فيلم جعل همّه ان يقدم حياة مواطن أميركي بسيط، وحياة زوجته خلال مرحلة شديدة الصعوبة من تلك الحياة. أما كينغ فيدور، فإنه يصف فيلمه على النحو الآتي: «الصورة الأولى في الفيلم ترينا مجموعة من اناس يخرجون من، أو يدخلون الى، بناية نيويوركية ضخمة. ثم تنتقل الكاميرا لترينا مجموعة كبيرة من النوافذ، لتظهر بعد ذلك ناطحة سحاب تستعرضها الكاميرا طولاً وعرضاً قبل ان تتوقف عند نافذة معينة، يمكننا ان نشاهد من خلالها مئات المكاتب والموظفين المنكبّين على عملهم. ثم تجمد الكاميرا أمام واحد من هؤلاء: إنه بطلنا الذي يقوم هنا بعمل رتيب. والحال ان حركة الكاميرا هذه انما تصور ما أردت التعبير عنه، هذا «البطل» انما هو فرد من بين الجموع».

> وهذا «الفرد من بين الجموع» هو جون الذي سرعان ما نعرف خلال الفيلم انه ولد لعائلة فقيرة في ديترويت، ثم تيتّم وهو في الثانية عشرة من عمره، ليقرّر ان يشق طريقه بقوة وسط هذا العالم العدائي. وهكذا ينتقل لاحقاً الى نيويورك حيث يعثر على عمل كمستخدم بسيط في مكتب... وتمر عليه السنون، حتى يلتقي ذات يوم في كوني آيلند بالحسناء - العادية مثله - ماري، فيقع الاثنان في الغرام ويتزوجان، ليمضيا شهر العسل - مثل معظم الاميركيين المنتمين الى طبقتهما - عند شلالات نياغارا. بعد ذلك يرزق الزوجان، السعيدان أول الأمر، طفلين، في وقت كان فيه وضعهما الاجتماعي والمادي قد بدأ يتدهور... بخاصة ان جون، اذ يبدأ سأمه من حياته الرتيبة المنتظمة، يصاحب رفقة سوء. وتلي ذلك سلسلة من الكوارث الاجتماعية والشخصية: اذ انه يفقد عمله في شكل مباغت، ثم تموت ابنته الصغيرة في حادث سير حيث تصدمها شاحنة... وتسوء العلاقة أكثر فأكثر مع زوجته. وهو حين يفقد كل أمل يتأبط طفله الصغير الذي تبقّى له ويحاول الانتحار، لكنه يفشل في انتحاره، كما كان فشل في كل ما أقدم عليه من قبل. ويقرر، إثر هذا الفشل الجديد، ان يعود الى البيت. وفي طريقه الى هناك تحدث «المعجزة الصغيرة»: يجد عملاً. صحيح انه عمل تافه طبعاً، لكنه عمل والسلام: صار «رجلاً سندويتشاً»، أي من أولئك الذين يحملون لوحات دعائية يسيرون بها وهم يقرعون الأجراس. إنه، في المقاييس الاجتماعية، واحد من أحقر الأعمال التي يمكن ان يمارسها انسان، ولكن لا بأس طالما انه عمل يسمح لجون بأن يربح بعض الدولارات تعينه على العيش وتكسبه حب زوجته من جديد. ويتحقق له هذا لنرى الزوجين في النهاية ذاهبين لحضور حفلة، ويضحكان للمرة الأولى بينما تبتعد الكاميرا لتجعل منهما «فردين عاديين وسط الجموع».

> ان رسالة هذا الفيلم واضحة. ولكن هل تراه كان حقاً يحمل تلك الشحنة من التفاؤل التي ألصقت به؟ من ناحية مبدئية أجل. ولكن الصورة تبدو مغايرة ان نحن تمعّنا فيها. فالعمل الذي يجده جون يبدو تافهاً - كما أشرنا - وموقتاً ايضاً. ومن هنا، فإن السعادة التي يستعيدها موقتة كذلك. وما حدث له سيحدث من جديد، وللجمهور كله، فأين هو الحلم الاميركي المنشود، في ذلك كله؟ الحال ان بعض الذين تنبهوا الى ذلك الالتباس، بين التفاؤل الظاهر والتشاؤم الحقيقي في الفيلم وآخذوا كينغ فيدور عليه، سوف تأتي الاحداث والانهيارات الاقتصادية التالية لتجعلهم يعيدون النظر في موقفهم واكتشاف كم كان المخرج محقاً في وضعه شخصياته على الحبل المشدود.

> حين حقق كينغ فيدور (1894-1982) «الجمهور» كان في الرابعة والثلاثين من عمره، وكان حقق شهرة ومكانة في عالم الفن السابع الذي انتمى اليه باكراً، ومنذ كان شاباً، في مسقط رأسه بلدة غالفستون في ولاية تكساس. فهو بدأ عامل عرض وقاطع تذاكر في دور السينما قبل ان يتحول الى مصوّر يهتم بالأخبار السينمائية المصورة. وفي عام 1915 نراه يتوجه الى هوليوود حيث يحاول فرض نفسه كاتب سيناريو، لكن كل السيناريوات التي يعرضها، اول الأمر، على الشركات ترفض، حتى أتيحت له بداية، بالصدفة، في العام 1919، حيث حقق فيلمه الاول «منعطف الطريق». ولم يتوقف بعد ذلك، اذ ظل داخل المهنة، مخرجاً وكاتباً ومنتجاً حتى العام 1959 حين دفعه فشل فيلمه «ملكة سبأ» الى الاعتزال، وهو خلال مسيرته الطويلة حقق عشرات الافلام، بعضها ناجح جماهيرياً لا أكثر، وبعضها سيّئ السمعة، لكن البعض الآخر يعتبر علامة في الفن السابع مثل «الجمهور» و «العرض الكبير» و «هللويا» (1929، وكان أول فيلم يمثله الزنوج) و «البطل» و «القلعة» و «خبزنا كفاف يومنا» (1934)، وبخاصة «صراع تحت الشمس»... والنسخة الاميركية من «الحرب والسلام» (1956).

( الحياة اللندنية )

 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات