الانتخاب وتداول السلطة إكسير بقاء الدول والجماعات
لما خلق الله آدم وعلمه الأسماء كلها، وجعل الإنسان قادراً على التعلم والتطويروالابتكار، واجتناب الأخطاء والسلبيات، ولذا كُلف بعمارة الأرض، وقد سُخرت المواد الأولية لذلك، كما أُتي العقل ليبتكر مما وجد بين يديه. وإن كان الأمر ينطبق على المواد المادية فهو كذلك يتماشى مع القضايا النظرية، كالإدارة والسياسة ...ألخ. ومن أبرز مهمات الإنسان إدارة وتنظيم شؤون حياته الخاصة والعامة.
ولعل تنظيم وإدارة المجموعة البشرية الكبرى والتي أطلق عليها اسم الدولة هي أبرز مهمة للشؤون العامة ، والله سبحانه لم يحدد نظاماً معيناً لإدارة تلك الدولة، ولكنه أشار سبحانه لقواعد عامة، من أبرزها الشورى، والعدل، والحرية.
ولقد أشار المفكرون وأبرزهم ابن خلدون في مقدمته أن للدول أعماراً كما للبشر كذلك؛ تطول وتقصر تبعاً لعوامل عدة ؛ وأعمار الدول في الغالب لاتزيد عن مائة وعشرين سنة.
ولكن الناظر لبعض الدول الآن ولأنظمة الحكم فيها يرى أنها تزيد على ذلك بكثير. وللمرء أن يتساءل؛ لماذا امتدت أعمار تلك الدول؟
لقد توصل الناس في أوروبا بعد سلسلة من الثورات لنظرية في الحكم تقوم على أساس الانتخاب المباشرلممثلي الشعب، وهؤلاء ينتخبون سلطة تنفيذية؛ ولكنها تحت مراقبتهم، وترعى تلك السلطة التنفيذية مصالح الشعب وتدافع عن حقوقه، وتسهر على راحته ، وتعمل على إزدهاره.
ولذا فتسند السلطة للفئة الفائزة ، ولكن لمدة محددة، حيث تجرى مثلاً كل أربع سنوات انتخابات للشعب كله، فينتخب ما أطلق على تسميته بالبرلمان أو غيره من التسميات، والبرلمان ينتخب مجلساً للوزراء كسلطة تنفيذية.
ولكن كان هنالك أنظمة وراثية ملكية، تحظى بتقدير واحترام الشعب كله، فلا هم يرغبون في تغيير نظام ملكهم، ولا هم يرغبون أيضاً في بقاء الحكم التنفيذي لشخص واحد لهم مهما جلّ قدره؛ فنتج عن ذلك ما عُرف بالملكية الدستورية، وترك أمر الحكم التنفيذي للوزارة.
ولعل انتخاب ممثلي الشعب ، ثم تكليف وزارة منتخبة ، هو ما يجعل الشعب يشعرأن له دوراً في اختيار قيادته وممثليه، كما ويترك الفرصة متاحة لأي شخص للرقي لسلم المسؤولية والقيادة، معتمداً على ثقة الناس به. بالإضافة للمساءلة وتحمل المسؤولية، والعزل أيضاً عند عدم الكفاءة.
إن ذلك النظام قد جنب الدول _ التي إتبعته بنزاهة وتجرد _ الفتن الداخلية؛ نتيجة لتصارع السياسين والطامحين للسلطة، وما يتبعها من قتل وتشريد وبؤس وحرمان. ولأن الأنظمة المتبعة سابقاً كانت تمنع عنهم طموحهم ، وتترك المجال للمرائين والمخادعين، مما أدى لاستخدام وسائل أخرى للوصول للسلطة، وفي سبيل ذلك يُسخر كل شيء، وبما فيها الدين.
ولذا فحسب أنظمة الحكم الحديثة؛ إن رسب أحدهم في الانتخابات؛ فإن له بعد أربع سنوات فرصة أخرى للنجاح والفوز، وإن نجح لفترة معينة، فهو حريص على تحقيق الإنجازات ورعاية المصالح؛ حتى يُنتخب لفترة قادمة أيضاً.
ولعل الدارس لنظام الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة بما للرئيس من صلاحيات وكيفية تعيين الوزراء والسفراء ...الخ يكاد يظن أنه أقرب ما يكون لنظام الحكم في الإسلام، ولا نستغرب ذلك فقد ذكرت العديد من الدراسات أن واضعي الدستور الأمريكي استفادوا من تجارب الأمم الأخرى ومن الكتب المنزلة على الأنبياء ومنها القرآن .
وإذا كان البعض يرى مدة بقاء الخليفة مطلقة ، حتى يموت أو يُخل بأحد شروط الخلافة، فإنما هو اجتهاد، وقد يكون صحيحاً لفترة من الزمن، ولكنه لا يصلح لفترات أخرى، أو إلى يوم القيامة.
ولنا أن نتصور لو أن عمر _رضي الله عنه_ حكم لفترتين ولمدة ثمان سنوات مثلاً، ثم انتخب خليفة آخر وليكن عثمان _رضي الله عنه_ ولمدة ثمان سنوات كذلك، ثم من بعده علي _رضي الله عنه_ فهل يمكن لنا القول أنه ستظهر فرق في الأمة الإسلامية ، أوبالأصح أحزاب سياسية ثلاث: السنة والشيعة والخوارج؟
ولعل هذا الفهم بعدم التوريث للسلطة هو ما قصده عمر بن الخطاب_رضي الله عنه_ منظم دولة الإسلام وواضع قواعدها السياسية والإدارية؛ حيث عندما أُغتيل وأشار عليه البعض بأن يكون ابنه عبدالله خليفة من بعده رفض ذلك. ومن المعلوم أن عمر_رضي الله عنه_ أخذ بالكثير من الأفكار الإدارية المتطورة في عصره كالديوان ومجلس الشورى، ..ألخ؛ بل واستحدث أنظمة جديدة كالخراج مثلاً، ولو كانت فكرة الانتخاب المباشر واختيار أهل الحل والعقد وهم أهل الشورى، ثم تدوال السلطة كل أربع سنوات مثلاً، وعدم التجديد للخليفة لأكثر من دورتين موجودة، أو لو أن ألله هداه لها، لما تردد في أخذها، وعندئذ سنجد أن الأمة تجنبت الكثير الكثير من الويلات والمصائب والنكبات والدماء.
ومن أسباب نهضة التيار الإسلامي حالياً في عدد من الدول؛ إنما يعود لتعديل الأنظمة الداخلية لتلك التيارات؛ بحيث يتم تداول المسؤولية الداخلية؛ فمثلاً قد استبدل المرشد العام للأخوان في مصر ، وكذلك في عدد من الدول والأحزاب الإسلامية. فلعل ذلك التغيير والذي يدفع بدماء ووجوه وأفكار جديدة، هو كذلك سر تجدد العطاء في ذلك التيار، وقيادته لعدد من الدول.
وأخيراً فإن الانتخابات المباشرة النزيهة والحرة لانتخاب ممثلي الشعب، ثم تداول السلطة السلمي، هو سر بقاء الدول وإكسير استمرارها وتجدد شبابها، وقوتها.