"يا حوينتك" يا وطن ...
..
" حوينه " لمن لا يعرف معناها مثلي ، هي كلمة ليس لها معنى إلا في قاموس عجائزنا ، فعندما ينكسر إناءً نفيسا ، أو نفقد شيئا عزيزا ، تنطلق سريعا كلمة " يا حوينه " من فم عجوز كانت قد حضرت المكان ، تعبيرا منها على هذا المصاب الذي أصاب .
سأعتذر من أمي الخمسينية لسببين ، أولهما أنني أفشيت سرا من أسرارها بأنها واحدة من النساء اللواتي يطلقن كلمة " يا حوينه " بكثرة في مثل المناسبات التي ذكرت آنفا ، وثانيهما أنني اتهمتها بأنها عجوز ، وأضنني هنا على غير عادتي سأحاول جاهدا بأن لا يقع هذا المقال بين يديها حتى لا تسمعني جملة " يا حوينة الحليبات اللي رضعتك اياهن " تعبيرا منها عن غضبها مني لاتهامي لها بأنها عجوز ، عندها سأقول لها بأنها ليست عجوزا ، ولكنها بالتأكيد ورثت هذه الكلمة عن عجوز غيرها ، وأنها لا زالت الى اليوم غير قادرة على نسيانها .
بالأمس القريب كنت مع عائلتي أمام شاشة التلفاز ، نشاهد ما تبثه قنواتنا الإخبارية من أخبار عن مرشحي الانتخابات النيابية للمجلس السابع عشر ، شيئا عن افتتاح مقراتهم ، وشيئا آخر عن شعاراتهم ، وشئيا آخر عن زياراتهم إلى المحافظات المختلفة طلبا للرضى وللأصوات .
ومرغما عني وضعت يدي على خدي وتأملت ، من غير رغبة مني في متابعة المزيد ، ولا مفارقة الجديد ، كنت أسير معركة طاحنة جرت ما بيني وبيني ، فزت فيها في نهاية المطاف على نفسي .
فلان محاط بمئات من الناس يحيطونه من كل الجهات في صورة لا تقل هيبة وجلالا عن زيارة أهم الشخصيات وأعلاها رتبة في البلاد إلى مكان ما . طريقة الكلام ، طريقة السلام ، طريقة اللقاء والوداع لم تدل على أن الناس لا زالوا على خير ، السيارات التي يستقلونها ، والمبالغ التي يدفعونها على حملاتهم الانتخابية شكلت فوق رأسي سحابة كثيفة من الأسئلة التي خرجت من سهرتي وما وجدت إجابة شافية عليها .
خطابات ووعود لا سقف لها ولا حسيب ولا رقيب عليها ، ونحن كعادتنا مستقبلون للحدث متزاحمين أمام المقرات الانتخابية لا نخرج منها إلا وقد أصبحت محاطة بكم هائل من صحون الكنافة وعلب البيبسي والماء الفارغة ، مصفقون بأيدينا إلى من يركلوننا دائما بأرجلهم عندما يصلون إلى ما أرادوا من لقاءاتهم بنا ، وحرمنا بإرادتنا فقير الحال ، عفيف النفس عن السؤال ، المشاركة بالحدث ولو كان أهلا له ، هذا الحدث الذي جعلناه حكرا على من تكرشوا من أموال لا ندري عن مصادرها ، كيف لأمثال هؤلاء أن يشعروا بالبرد والجوع ، فيثأرون تحت القبة لمن جاعوا ويفزعون لهم ، وما يعني لهم رفع أسعار الكهرباء أو الماء أو السولار وهم لا يقصرون أبدا في نثر آلاف وربما ملايين الدنانير في الشارع على ما يسمونه بمسرحية الدعاية الانتخابية الفاشلة ، في استهتار واضح للمشاعر , واستخفاف أوضح بعقول الناس .
سيستمر المسلسل طويلا ، طالما أننا لم نمسك العصا من منتصفها ، فإما العشائرية والعنصرية والرأسمالية التي تنطحنا بقرونها الملتوية دائما ، وإما مقاطعة الانتخابات النيابية مقاطعة لن تسهم إلا في إفراز الأسوأ ، هذا الأسوأ الذي إذا ما استمر على ما هو عليه سيدفعنا يوما ما إلى أن نضرب الكف بالكف ، وأن نقول بحسرة لا تقل عن حسرة أمي " يا حوينتك يا وطن " فيرد علينا صدى صوتنا من بعيد ... اللي مضيع وطن ... وين الوطن يلقاه...!!
بقلم :- اشرف محمد الشهاب