دروس من عكّا..
ما زالت أسوار عكا تواصل شموخها الرائع الذي يحمل معاني الفخر والثبات والصمود البطولي على شواطئ المتوسط، وما زالت عكا تمارس الحديث لمن ينصت ويجيد الاستماع وتروي العلاقة العجيبة مع أمواج البحر، التي تكون أحياناً رقيقة وادعة تفيض سحراً وجمالاً وهي تداعب حجارة السّور العظيم، وأحياناً تكون غاضبة وثائرة وهائجة، ولكن أسوار عكا تتلقاها بصبر وخبرة ومعرفة تجعلها قادرة على استيعاب هذا الغضب وهذه الثورة على مدار قرون متتابعة من الزمن المتقلب، ولم تضعف ولم تتهاد أمام عاديات الزمن.
ما زال مسجد الجزار يواصل رفع الأذان الذي ينساب ممتداً فوق سطح الماء أميالاً وراء أميال، تردد خلفه أسماك البحر وحيتانه، ولكنه لا يصل إلى أسماع كثير من أبناء العرب الذين غرقوا في بحر النسيان ولجة النزاع المفضي إلى الفرقة والضعف وقلة القيمة وانعدام الهيبة.
ما زالت عكا تروي قصتها مع نابليون وما صنعه أهل عكا مع الحملة الفرنسية الغازية، ولقد سجلت النساء دوراً بطولياً في هذه الموقعة، عندما كن يهوين بالحجارة والأثقال "وقوارير الزرّيعة" على رؤوس الجنود وسط الأزقة والزنقات الضيقة، فولوا هاربين نحو القوارب والسفن في عرض البحر، وسجل التاريخ هزيمة نابليون القاسية أمام أسوار عكا.
القصة المدهشة التي أذهلت كثيراً من المشاهدين في الفيلم الوثائقي الذي عرضته قناة الجزيرة الوثائقية حول طقوس رمضان في عكا، والإفطارات الجماعية التي تجمع المسلمين والمسيحيين والدروز على مائدة واحدة ترسم لوحة جميلة تمثل المجتمع العربي بواقعية فطرية تستحق التوقف من أبناء هذه الأيام، والعنصر الأكثر إثارة في هذه القصة هو "المسحّراتي" صاحب الصوت الجميل الذي ظهر بلباس تراثي خاص. وهو يجوب الشوارع والأزقة يغني بلحن شجي على وقع الطبل قائلاً "رمضان كريم" في أواخر الليل وقبيل الفجر، ويواصل مهنته بمنتهى الحبور والسرور ويتحدث لصاحب "الكاميرا" عن السنوات الطوال التي قضاها في هذا الدور الممتع، ويقول يجب على من يقوم بهذا الدور أن يكون بلباس محشوم، حسب تعبيره، ويجب أن تكون دقة الطبل محترمة، وكانت المفاجأة عندما تبين أن هذا الرّجل ( المسحراتي ) مسيحي ويحمل اسم (ميشيل أيوب) وأجاب على سؤال الصحافي الذي يحمل علامات الدهشة: لا يا أخي رمضان لنا جميعاً، رمضان للأمة كلها، نحن هنا جميعاً نتسحّر ونصوم ونفطر معاً ونأكل الحلويات العكاويّة معاً، ونحن عائلة واحدة.
المغني والكاتب والملحن العكاوي "خير فوده" كان يقود إحياء حفلة الإفطار الجماعي، ويقول إنه تعلّم الغناء وهو طفل صغير عندما كان يتجمع أبناء الحي حول النار التي يتم إيقادها على الشاطئ في الليل، ويقول بمنتهى العفوية والبساطة لقد تعلمت الإيقاع من خلال "التطبيل" على براميل الزبالة وأنا صغير.
الدرس العميق ظهر جلياً من عزم هذه البقية من العرب وتصميمها على الاحتفاظ بمنازلها وأوطانها رغم التحديات والعوائق.
هؤلاء يستحقون الاحترام والتقدير والدعم الحقيقي الذي يعبّر عن الروح النضالية الوطنية الأصيلة البعيدة عن الزيف والنضال تحت الأضواء والبعيدة عن الاستثمار والمتاجرة
العرب اليوم
