الانقسام المغيب في تونس
لقد سلّط اغتيال الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد شكري بلعيد يوم الأربعاء الماضي الأضواء على الانقسام الطبقي المغيب في تونس لكن الاستقطاب الحاد الناجم عن اغتياله يكاد يغيّب هذا الانقسام ثانية.
إن "إجماع" الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وحتى "حزب التحرير" التونسي وحركة النهضة الحاكمة إضافة إلى القوى القومية واليسارية والليبرالية على إدانة اغتياله هو إجماع يتناقض تماما مع الاستقطاب المستفحل الذي تمخض عن اغتياله بين حركات "الاسلام السياسي" وكل الآخرين تقريبا في تونس، ليزيد هذا الاستقطاب في تغييب الانقسام الأهم بين القلة المحتكرة للثروة والحكم والأغلبية الساحقة من الشعب التي يطحنها الحرمان الاقتصادي والسياسي.
وما له دلالته في هذا السياق أن اغتيال نقابي مخضرم مثل بلعيد كان قد سبقه في الثامن عشر من تشرين الأول الماضي اغتيال الكاتب العام للاتحاد الجهوي للفلاحين في تطاوين لطفي منقض، ويلفت النظر كذلك الإضراب العام الأول من نوعه منذ عام 1978 الذي أعلنه ونفذه الاتحاد العام التونسي للشغل يوم الجمعة الماضي احتجاجا على اغتياله، وكون هذا الاتحاد مع النقابات العمالية كان مساهما رئيسيا في قيادة الثورة على نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، خلافا لنظيره المصري الذي تم حلّ قيادته بعد ثورة 25 يناير.
وهذا الانقسام المغيب الذي كان المفجر الأول للثورة في تونس أولا ثم بعدها في بقية أقطار الوطن العربي الكبير التي تجتاحها الانتفاضات الشعبية من أجل العدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حيث ما زال التعتيم على هذا الانقسام جاريا على قدم وساق، مرة تحت عنوان الخلاف بين "الإسلام السياسي" وبين كل القوى الأخرى خاصة القومية منها، وثانية باسم الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة، وثالثة بين الأكثرية العربية والأقليات العرقية والقومية والثقافية، إلخ.، بينما في كل الحالات لا تتغير القلة المستفيدة من الاستمرار في افتعال ايقاظ الفتن الكامنة في هذه الانقسامات، وإن تغيرت أسماؤها ورموزها، ليحل، على سبيل المثال، خيرت الشاطر في مصر محل الرئيس السابق حسني مبارك وابنائه وبطانتهم من حيتان الاقتصاد الحر والانفتاح الاقتصادي والعولمة، بينما تظل ملايين الأغلبية الساحقة المحرومة حطبا ووقودا لصراعات هؤلاء.
إن استبدال الواجهة "الليبرالية" بواجهة "إسلامية" للقلة المحتكرة للثروة والحكم لم تفت ملاحظة المؤرخ بجامعة ستانفورد الأمريكية البروفسور جويل بينين، فـــ"الإخوان المسلمون"، كما كتب، "يتبنون السياسات النيوليبرالية ذاتها التي كان يفضلها نظام مبارك، بل إنهم يتطلعون إلى برنامج أوسع لخصخصة الأصول العامة".
لقد وصفت حركة النهضة الحاكمة في تونس اغتيال بلعيد بأنه "جريمة نكراء" ووصفه رئيس الوزراء العضو في الحركة حمادي الجبالي بـــ"العمل الإرهابي" وبأنه "تهديد مفتوح للانتقال الديمقراطي"، ودعت الحركة في بيان رسمي "كل التونسيين إلى التضامن والوحدة"، ودعا مؤسسها وأبوها الروحي الشيخ راشد الغنوشي إلى أن يكون "دم الفقيد.. رسالة وحدة وتوحد". وكون "حكم" النهضة غير مستفيد بالتأكيد من الاستقطاب السياسي الحاد وعدم الاستقرار الناجمين عن اغتيال بلعيد هو سبب كاف في حد ذاته لإثبات صدق النوايا ولو لأسباب براغماتية.
لكن اغتياله يمثل كذلك مناسبة لترجمة الدعوة اللفظية إلى "الوحدة والتوحد" إلى فعل سياسي ملموس، ومناسبة ليس فقط لإجراء مراجعة سياسية للبيئة الأيديولوجية الحاضنة للتطرف والعنف والاقصاء السياسي التي خلقها حكم النهضة في تونس، وهي البيئة التي استفحلت بإنشاء مليشيات حركة النهضة المسماة "رابطات حماية الثورة"، بل مناسبة كذلك لإجراء نقد ذاتي لأيديولجية الحركة، وأيديولوجية حاضنتها الأم "جماعة الإخوان المسلمين".
وهي الأيديولوجية التي حوّلت الجماعة تاريخيا إلى منظر فكري لأنظمة الاستبداد العربي المتحالفة مع الولايات المتحدة، أو التابعة لها، وحوّلتها إلى احتياطي فكري وبشري لقوى الثورة المضادة للتغيير الديمقراطي والاجتماعي والاقتصادي.
ومن دون مراجعة ونقد ذاتي لهذا الدور التاريخي يقودان إلى تغيير جذري في توجه "الإخوان" سوف يستفحل الاستقطاب الراهن في تونس وفي غيرها وسوف تكون نتيجته الوحيدة صراعا نهايته غير منظورة يتدحرج مثل كرة الثلج ليقود المنطقة إلى "انتحار ذاتي" مرفوض.
ولا يمكن إعفاء المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر د. محمد بديع من المساهمة في خلق البيئة الأيديولوجية الحاضنة للبيئة التي سهلت اغتيال بلعيد في تونس، ولن تنجح على الأرجح أي عملية مراجعة ونقد ذاتي لجماعة الإخوان وفروعها ما لم تتغير قيادات مثل د. بديع الذي لا يسهل أية عملية كهذه ولا يسهل نجاح "الإخوان" في الحكم عندما يبعث إلى قمة منظمة التعاون الإسلامي التي انعقدت في القاهرة الأسبوع الماضي رسالة، نشرتها الأهرام الأربعاء الماضي، ينصحهم فيها بإلغاء "تعدد الأحزاب" عملا بوصية مؤسس الجماعة حسن أحمد عبد الرحمن محمد البنا الساعاتي!
غير أن على الطرف الآخر كذلك إجراء مراجعة لمواقفه، ففي نهاية المطاف تظل جماعة الإخوان جزءا أساسيا من النسيج السياسي العربي، فقد فشلت محاولات استئصالها طوال ما يزيد على ثمانين عاما، لكن الأهم هو أن جماهيرها لن تظل معصوبة الأعين إلى الأبد عن رؤية كونها خاسرة في مشروع الإخوان للحكم بمعطياته الحالية، وفي كونه مشروعا لا يزال يغيب الانقسام الأهم في المجتمع، وسوف تظل مستفيدة وصاحبة مصلحة في المشروع القومي الديمقراطي البديل، وهو المشروع الذي لم ير يوما في الدين الحنيف إلا رافعة له من أجل وحدة الأمة وتحررها، ولم ير في الإسلام يوما أنه المسؤول عن تجزئة الأمة ونهب ثرواتها ومصادرة حرياتها، إلا إذا كان الاستعمار الأوروبي القديم ووريثه الأمريكي وعصاهما الإسرائيلية حواضن للإسلام والحركات السياسية التي تتدثر به كما تحاول "ثورات" ما يسمى "الربيع العربي" إقناع هذه الجماهير .
العرب اليوم