الآثار وحفريات الفساد

لم تكن كل المعركة ضد الفساد نزيهة بالكامل، بالرغم من تواضع النتائج في الكثير من الملفات التي فتحتها، إلا ان تلك المعركة وظّفت أحيانا في تصفية الحسابات وفي صراع الإرادات داخل المؤسسات الرسمية وخارجها، بل أحيانا استثمر حماس الناس والإعلام لاجتثاث الفساد وانتزاعه من جذوره في افتعال ملفات فساد وهمية من أجل التغطية على صفقات فساد تجري تحت الطاولات.

الأسبوع الماضي أصدرت محكمة جنايات عمان قرارا يقضي ببراءة مديرعام دائرة الآثار العامة السابق الدكتور زياد السعد من جناية استثمار الوظيفة التي اتهم بها على خلفية ما عرف بقضية تعديل شارع في جرش؛ وجاء في نص قرار المحكمة "الثابت أن المتهم زياد لم يقترف أي غش في العمل والمعاملات لجر مغنم ذاتي أو مراعاة لفريق إضرارا بفريق آخر بالإدارة العامة، ولم تتبعه بينة للحصول على منفعة شخصية من قراره المتخذ لتعديل مسار الشارع، بل كان القرار المتخذ من قبله للمصلحة العامة مما يتعين والحالة هذه إعلان براءته". وسبق ان برأت المحكمة الدكتور السعد من قضية أخرى عرفت باسم مشروع أثينا وهو أحد المشاريع الممولة من الخارج.

إن ملف الآثار الأردني يعد حالة معقدة ومركبة ومزمنة من المشاكل والضعف والفساد أيضا ويعود عمره الى اكثر من عقدين، ويحتاج الى حفريات من نوع آخر، ولعل أحد أمثلتها أن الدائرة العتيدة التي تعد من أكثر دوائر الدولة أهمية وحساسية ومن أقدم مؤسسات الدولة ما تزال بدون مدير عام منذ أكثر من عامين، ودائرة الآثار العامة بدون موارد وموازنة تليق بحجم المهام المفترض ان تقوم بها، ودائرة الاثار المفترض أنها ترعى أكثر من مائة الف موقع أثري في مختلف انحاء المملكة، وكما نعلم فإن نصف بلادنا متحف مفتوح بدون موقع على شبكة الإنترنت.

اتخذت حكومة سابقة في العام 2011 واحدا من أخطر القرارات وأكثرها سلبية على مستقبل التنمية والهوية الحضارية والتراث الوطني، وهو قرار تحويل صفة استخدام 14 موقعا من أهم مواقع التراث الثقافي الوطني من صفة آثار، أي تعطيل ولاية قانون الآثار عليها، إلى صفة سياحي، بمعنى البدء الفعلي في خصخصتها وفتحها لأهواء رجال الأعمال والشركات الاحتكارية؛ ذلك القرار الذي تم تجميده بعد أسابيع في عهد حكومة لاحقة بعد أن أثار أزمة وطنية، يقف خلف بعض الصراعات التي دارت خلف المكاتب المغلقة وأدت الى تفريغ دائرة الآثار من الخبرات والكفاءات الوطنية.

توجد في الأردن خبرات في علوم الآثار تنافس على مستوى عالمي، ومنها الدكتور السعد وهو خبير له مكانته الدولية في مجال ترميم وحماية الآثار، ولديه شبكة علاقات دولية واسعة في مجال تخصصه، لكن سوء الطالع جاء به على رأس دائرة الآثار في لحظة سيئة، ولعل اقل ما يمكن ان يستعيد الدكتور السعد بعض حقه بعد ما ناله من تشويه رسمي، وبعد أن برأته المحكمة، وأن يعود إلى موقعه الذي ما يزال شاغرا منذ أكثر من عامين.

علينا مسؤولية وطنية أخلاقية وقانونية، أن نقف الى جانب ضحايا المعارك غير العادلة، وأن نستعيد كرامات الأفراد الذين يتهمون ظلما وتحديدا موظفي الدولة، حينما نكتشف أنهم اتهموا نتيجة إصرارهم على الدفاع عن المصلحة العامة.

( الغد )