طبيعة الحراكات الشعبية وقوتها

تم نشره الإثنين 25 شباط / فبراير 2013 05:54 صباحاً
طبيعة الحراكات الشعبية وقوتها
الدكتور شفيق علقم

مع أن الناس بطبيعتهم يتبعون في حياتهم استراتيجيات ترتكز على التكيف مع علاقات القوة ( السلطة) ، وليس محاولة تغييرها ، وانما يفعلون ذلك لاسباب منها :- اعتقادهم بأن العلاقات القائمة الحالية صحيحة وجيدة ،وأن تغييرها مستحيل ، أو الخوف من أن يقود تغييرها إلى ما هو أسوأ(كما يحدث في الجوار) ، وأن امكانية تأمين احتياجاتهم وأمنهم ضمن العلاقات  الراهنة مع السلطة أفضل ، وأن السلطة أو القوة الراهنة يمكن أن تتغير وتتطور، وستتغير للافضل، او الخوف من العقوبات نتيجة انتهاك القواعد والنظم الاجتماعية للسلطة ومخالفة ارادة القوي.

ولكن عندما تتراكم المشاكل ،وتتصاعد الامور، وتتوتر العلاقات، يبدأ الناس بالتساؤلات ،وبالتالي الانسحاب من الموافقة على الوضع الراهن ومؤسساته ورفضه ؛فتصبح العملية اجتماعية محضة ، ويزداد احساس الناس بانهم يواجهون جميعا المشاكل ذاتها التي تمس حياتهم ومعيشتهم ، ويطرحون الاسئلة ذاتها التي تدور على كل لسان ، ويبدأ الناس بالتفاعل مع بعضهم بعضا ، وتتحول المسألة  من عملية تساؤل فردية الى عملية تساؤل جماعية ، ويشاطرون بعضهم بعضا في الطروحات والمفاهيم والاهداف والاحلام ، ويبدأون بالتشاورات والتجمعات والحراكات الشعبية ،التي هي انسحاب جماعي من الموافقة على السلطة ومؤسساتها القائمة ورفضها ، والرفض عادة ما يتخذ اشكالا متنوعة ، فهناك الرفض الصامت ويمثل الاغلبية في البدايات ، وهناك الرفض الذي يتشكل في جماعات ضمن حالة التضامن.

ان الكثير ممن ينضمون إلى الحراكات يتطلعون إلى تغيير اوضاعهم المعيشية، ولكن مع الاسف ، فان غالبية اتباعها يكونون من الغوغاء والمهمشين والفقراء  والعاجزين عن التأقلم ، ومنهم الطموحون الذين يواجهون فرصا غير محدودة  للظهور ، وبعض الاقليات،والمولولون مرتكبو المعاصي  الذين يسعون لتطهير انفسهم ، ومنهم المحبطون ، وبعض الشباب المتعلم.

 وتتخذ بعض حالات الحراكات مواقف  مختلفة ،منها المقاطعة او الاضرابات اوالتظاهرات والحراكات السلمية ، او حالات العصيان المدني والثورات في اوجها.

ان عدم الرضا في حد ذاته لا يخلق بالضرورة الرغبة في التغيير؛ ولكنه اذا تحول إلى  تذمر وشكوى مع وجود  عوامل الاحساس بالقوة ضمن مشاعر الحماس والانفعال التي تكون عادة ادوات من ادوات التغيير وتحقيقه ، ان هذه الحراكات تستطيع ان تكون فاعلة قوية ومؤثرة عندما  تتلاقى مع الاماني المشتركة ، والتعاون النشط ، وهي التي تعطي الحراكات قوتها بالتوافق  والمطاوعة ، وبخاصة عندما تكون المشاكل والاهداف والاماني واحدة ، ان التضامن يعطي الناس سلطة محتملة ومؤثرة في المجتمع كله ، فلقد تمكنت حراكات شعبية جماهيرية كثيرة   من التغلب على مراكز قوى كبيرة للسلطة والثروة ؛ فقد تخلصت شعوب كثيرة بحراكاتها وثوراتها الجماهيرية من قوى امبريالية استعمارية كبرى  تفوقها اضعافا مضاعفة ، فنالت حرياتها واستقلالها وتخلصت من  استعمارها وتبعيتها ونهب خيراتها؛فلقد الغت حراكات حقوق الانسان قوانين الفصل العنصري في الولايات المتحدة نفسها ،واسقطت الحراكات الشعبية الجماهيرية دكتاتوريات في بولندا والفلبين وغيرها، وألغت نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا ( الابارتيد) ؛ وذلك بفضل اصرارها ومناهجها التي لاقت نجاحات باهرة.

ان الاشخاص الذين يندفعون لاحداث تغييرات واسعة يشعرون عادة بان لديهم قوة لا تقهر. وصف احد الفلاسفة الناس ابان الثورة الفرنسية فقال( ان الناس لم يشعروا قبلها قط بهذا الاعتزاز بالنفس) ، ومع هذا الشعور بالقوة مع الثقة المفرطة بالنجاح ، يصبح ثمة ظمأ إلى التغيير الذي يسكن عقول الناس بسهولة،فالنجاح يحتاج إلى قوة الايمان بالفكرة ، وقوة الايمان بالهدف والقيادة والامل المطلق بالمستقبل ، لان الامل عندما يفتقر للقوة يمكن ان يقود إلى مغامرات يائسة فاشلة ؛ ذلك لان المشحونين بالامل يستمدون القوة من اغرب المصادر، من شعار او من كلمة او من موقف او من اي شيء مثير آخر.

ان الخوف من المستقبل يدفعنا إلى التمسك بالحاضر ؛ بينما يجعلنا الامل في المستقبل متحمسين للتغيير، والحراكات الشعبية تستمد قوتها  وحيويتها من نزعة اتباعها نحو العمل الجماعي والتضحية ،  فعندما  نعزو نجاح حركة ما إلى عقيدتها ومذهبها وقيادتها وما إلى ذلك، فنحن في حقيقة  الامر نشير إلى ادوات وآليات تقود إلى العمل الجماعي والتضحية ، قال نابليون بونابرت ( ان الذي يصنع الثورة هو الغرور والطموح ، واما الحرية في التبرير).

ان الحراكات الشعبية في الاردن مع انها  بدأت مبكرة قبل  مثيلاتها في العالم العربي ؛ الا انها تمتاز بانها حراكات مزاجية بطيئة معتدلة  عابرة ، اذ  ينتفي عنها طابع الطبقية المجتمعية ، او لمسات الايدولوجية الحزبية، وهي حراكات قامت كردة فعل لما حولها ،واسست لها   حالات من استشراء الفساد والمفسدين  ونهب الاموال ، والاستغلال  والواسطة والمحسوبية والمحاباة ، وكبح الحريات، والاضهاد وتحطيم المعنويات، وقهر الناس واحباطهم، وعدم المساواة، وتسلط بعض المتنفذين وكسر القانون والتجاوزات، وهيكلة الاقتصاد  نحو الخصخصة وغلاء السوق الجامح ، وصعوبة الحياة الاقتصادية للطبقات الفقيرة والمتوسطة من رفع للاسعار، والتحكم باقوات الناس في اوقات معينة ، وارتفاع سقف المديونية العامة ؛ لذلك رفعت هذه الحراكات شعارات الحرية والعدالة والكرامة  والغاء الخصخصة، ومحاربة الفساد بكل اشكاله، وملاحقة الفاسدين واسترداد الاموال المنهوبة ، وتطوير الحياة السياسية، وهي حراكات عابرة للاحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية ايضا؛ فالاردن بطبيعته  تخلو ساحاته من احزاب عريقة ذات ايدولوجيات مقنعة، باستثناء جبهة العمل الاسلامي الاكثر تنظيما وفاعلية وعقلانية ، وهي حركة مسايرة لا تتصف بالعنف اوالقوة او الغوغائية.

قال ادونيس( ان الحراكات الشعبية العربية تتدفق من ابواب الجوامع وبوابات المساجد ،لا من ابواب الجامعات والمدارس والنقابات والمؤسسات والاحزاب السياسية )  ،كما انها عابرة للمرجعية الفكرية الموحدة ، صحيح انها تتصف بحالة من الصفة الشعبية الجزئية في بعض وجوهها ،ولكنها ليست حراكات حزبية  او تنظيمية مؤثرة ، كما انها لا تتصف بمواصفات القوة ،او تصل إلى حالة الثورية ، فهي لم تخرج  من عامة الشعب نفسه على نطاق واسع ، فالثورة ليست جزئية لا في طبيعتها ولا في مطالبها ، ويمكن وصف الحراكات الشعبية الاردينة بانها حالة شعبية استثنائية منقولة ومستوردة ، عابرة متأثرة بمحيطها العربي وما يحدث فيه من حراكات وصفت بانها ربيعية ، انها تفتقد إلى ايدولوجية فكرية واضحة محددة ، والفاعلون فيها هم ثلل من الشباب المتعلم ، ولكن غير المنظم ،وشرائح من العمال ، ثم ان هذه الحراكات تتشرذم حينا لتطفو حينا اخر، فتعود إلى النهوض مثقلة بهمومها وانفعالاتها ، فلا تراوح مكانها ،لذلك انقسم الناس حيالها ما بين مصرين على المواصلة لتحقيق اهدافها ، او داعين إلى التهدئة حفاظا على الاستقرار وعدم الانغماس في الفوضى والمناوشات التي قد تقود الى صراعات طائفية او عنصرية او جهوية ، تحركها اياد خارجية ، وتشعلها اصابع داخلية منتفعة ذات  مصالح خاصة ، كما يحركها تجاور قوى صاخبة تتخبط في ظلام دامس دامي.

 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات