في حضرة الخنساء..

"أم نضال الفرحات" نموذج نضالي وبطولي معاصر من طراز فريد، يستحق التسطير في سجل الخلود بأحرف من ذهب، ولقد أضافت نموذجاً جديداً الى قائمة الأبطال الطويلة التي قدمتها الحركة الاسلامية المعاصرة مثل الشهيد أحمد ياسين، الشهيد عبدالعزيز الرنتيسي والشهيد ابوشنب، والشهيد يحيى عياش والشهيد يوسف ...، وقائمة طويلة من اؤلئك الذين حولوا قيم البطولة والتضحية الى واقع يعيشه الناس ويشاهدونه بأعينهم ويلمسونه بأيديهم ويحسونه بعقولهم ووجدانهم.
لقد ترددت في الكتابة عن نموذج "أم نضال" التي استشهد لها ثلاثة أبناء، وكانت مثال الأم الصابرة المحتسبة والتي واصلت مشوار الجهاد على طريق العزة بنفس راضية وعزيمة فولاذية لا تعرف الضعف ولا الذل ولا الخضوع، ولا التسول على أبواب أصحاب النفوذ والنعمة، وتعرض بيتها للقصف العدواني أربع مرات كما تقول بعض التقارير، وبقيت قامة منتصبة كشجرة نخيل ساحقة في واحة غزة، ويعود ترددي لكثرة الكاتبين عنها وتفكيري فيما أضيفه إلى هذا الكم الكبير من الكتابة حولها.
لقد خطر لي معنى مهم في سيرة خنساء العصر الحديث، وهو ذلك المعنى الذي خطر لي لحظة استشهاد القائد المؤسس لحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين، البطل أحمد ياسين، فالشيخ رحمه الله كان مشلولاً مقعداً، وقد أتى الشلل على كل أطرافه ولم يبقَ إلاّ عقله المتوقد وعزيمته الحديدية، وقلبه الكبير ووجدانه الطاهر، الذي جعله يختار هذا المسار الجهادي الحقيقي، تحت الاحتلال الصهيوني الاستيطاني الشرس وهو يعلم صعوبة الطريق ووعورة المسلك وبُعد المسافة، وقلة النصير وكثرة البلغاء والخطباء..
الشيخ بدأ بتأسيس خط المقاومة بوقت مبكر، لا يعلمه كثير من الناس، يعود إلى أواخر السبعينات وأول الثمانينات، واعتقل المرة الأولى لهذا السبب، وعندما تم الإفراج عنه لم يتوقف عن مواصلة هذا الخط، الذي تبلور أثناء تفجر الشرارة الأولى للانتفاضة الأولى في حي الشجاعية في غزة، الذي أدى إلى ولادة مشروع المقاومة الكبير على أرض فلسطين كلها، الذي ألهب الشعب الفلسطيني كله واستطاع أن يعيد الروح إلى القضية الفلسطينية وتصبح الحدث الأكثر سخونة واهتماماً على مستوى العلم كله.
المعنى الذي أقصده تحديداً هو المتعلق بمصداقية الرجل الذي كان معذوراً ابتداء عن الانخراط في الجهاد، لأنّ الله أعذر الأعرج والأعمى والمريض وذوي الإعاقات التي تكون أقل بكثير من حالة الشيخ أحمد ياسين، فكان باستطاعته أن يختار خطاً آخر في العمل مثل الخط الثقافي أو الخيري أو اللجوء إلى أية عاصمة من عواصم الغرب ليقيم معززاً مكرماً، أو أي بلد عربي مجاور وتأتيه وسائل الإعلام والصحافة العربية والأجنبية، وكان باستطاعته أن يبقى تحت الأضواء، لأنه لا تنقصه البلاغة ولا دقة العبارة ولا التجربة الثرية التي تغني الأجيال وطلاب العلم..
عندما اعتقل مرة أخرى على إثر زيادة حدّة المقاومة، وتم الإفراج عنه في صفقة حادثة اغتيال خالد مشعل، وجيء به إلى الأردن إلى العلاج وقابله الملك الراحل الحسين رحمه الله، ليطلب ما يريد، كان طلبه الوحيد إعادته إلى غزة، وكان يستطيع الرجل أن يأخذ الجنسية ويحصل على مركز اجتماعي مرموق ويعيش في عمان في فيلا فخمة في أرقى الأحياء والمناطق، وسوف يبقى مجاهداً، ويحمل لقب البطولة لأنه يملك تاريخاً مشرفاً، وسجلاً نضالياً فريداً، وحياة حافلة في السجون والمعتقلات وزنازين العدو، وما تنازل وما باع وما اشترى، ولا أحد يستطيع المزايدة عليه في هذا المجال، وكان باستطاعته أن يترشح للبرلمان ويحصل على أعلى الأصوات، وسوف ينتخبه الأردنيون قبل الفلسطينيين، وكان باستطاعته أن ينشئ مؤسسة ما تتلقى التبرعات من كل حدب وصوب لخدمة القضية الفلسطينية وأشياء أخرى كثيرة.
الشيخ لم يفكر لحظة واحدة في مغادرة ميدان القتال الحقيقي والمواجهة الفعلية مع العدو، وكان يتملكه الخوف أن يكون هذا الإفراج خطوة نحو الإبعاد عن أرضه ودياره المحتلة، فلم يطلب إلاّ هذا الطلب، وهو يعلم أنه ذاهب إلى أرض الموت والشهادة، وأن صواريخ طائرات العدو تتربصه في كل لحظة وعلى مدار الساعة.
"أم نضال الفرحات" عندما استشهد ابناؤها الثلاثة، واعتقل الرابع وقصف بيتها، كان باستطاعتها أن تأخذ (استراحة المحارب)، وتخرج إلى أي بلد، وسوف تجد الحفاوة والتكريم والتبجيل، وكان باستطاعتها أيضاً أن تجد ملاذاً آمناً في آخر حياتها، ولا تتوقف عن الكلام والكتابة البطولية، وأن تختار غير ذات الشوكة، تلك الطريق التي اختارها الآخرون، ولكن الله علم سريرتها النقية فاختار لها، الثبات في أرض المعركة والقتال والمواجهة مع العدو إلى أن تلقى الله، راضية محتسبة في ميدان الفعل وأرض الشهادة. ( العرب اليوم )