الحقيقة المرعبة

يتمّ اللجوء أحياناً إلى أسلوب مخادعة النفس، ومحاولة العيش بالوهم اللذيذ، الذي يتمّ من خلاله نسيان الحقيقة أو تناسيها أو التغافل المتعمّد الممزوج بفلسفة التبرير، وإتقان البحث عن مسارب تبديد الطاقة وتفريغ الغضب عبر أساليب ووسائل لا تلحق الضرر بأحد ولا تؤذي النفس، على طريقة بعض مراكز الاستشفاء في معالجة الكبت النفسي المؤذي، وتنفيس شحنات الغضب القاتلة التي قد تؤدي إلى ارتفاع منسوب الإحباط والاكتئاب الذي يقصّر العمر ويعجل بالأمراض المستعصية.
نحن في الأردن نعيش هذه الحالة بشكلٍ جماعيّ، وهناك تواطؤ عامّ تاريخي متوارث عبر الأجيال على عدم المصارحة، والتواري في جنبات التورية والمجاملة السياسية والاجتماعية وإبداء قدرة عجيبة على التلذذ بمنظر السراب، وقضاء الأوقات الطويلة بنظم القصائد والأدبيات، وتأليف القصص والروايات في وصف الواحات وشواطئ النخيل الجميلة وبرك المياه الصافية التي تتراءى لنا في صحرائنا القاحلة.
عندما نستيقظ أحياناً لبرهة من الوقت، أو نسمع صوت انفجار الحقيقة من خلال بعض المصارحات، والمحاولات النادرة في الكشف عن بعض أوصاف الواقع المرير، نصاب بالرعب والفزع والخوف الشديد من اكتشاف أنّنا نعيش أضغاث أحلام، ونخاف من لحظة تبديد الوهم اللذيذ من خلال الاصطدام بصخرة الواقع المؤلم ونخاف أن نكون في مواجهة الحقيقة المفزعة وجهاً لوجه.
الأحداث المهمّة السابقة التي أشغلت الجمهور الأردني خلال الأيام القليلة الماضية كلّها تشير إلى الحقيقة التي نحاول جاهدين التحايل على الاعتراف بها أو ملامستها، وإن كان هناك من يحاول امتلاك الجرأة على الحديث الهامس.
خلال أربعة وستين عاماً، جرى تدشين أهمّ مشروع عالمي في المنطقة العربية الذي أطلق عليه مؤخراً الشرق الأوسط الجديد، هذا المشروع تمّ برعاية بريطانية ابتداءً ثمّ أمريكية مؤخراً، لكنّه بتوافق عالمي وباتفاق جميع الأقطاب بلا استثناء، وجرى ترتيب الأوضاع المختلفة بحيث تتكيف مع نموّ هذا المشروع، ولا تتناقض مع تهيئة كل عوامل العناية له والرعاية والحفظ والصيانة، وتسابقت الدول الكبرى على الاعتراف به، وتقاسمت الأدوار، وتمّ ترتيب المسرح بإتقان.
على حواف هذا المشروع جرى الفك والتركيب، وجرى التشريد والتهجير ونشأت أفكار ومشاريع عديدة، وأشعلت حروب، وأطفئت نيران وولدت زعامات ورحلت قامات، وولدت منظمات من كل الألوان، ومن كل الأشكال والمشارب، وما زال المشروع قائماً، وما زلنا نعيش لذة الوهم، وما زلنا نعيش لذة الانقسام وحمّى التنافس على تحصيل المكاسب والهروب من مواجهة الحقيقة.
يأتي الرئيس الأمريكي الجديد يزور المنطقة، ويعلن يهودية الدولة المزعومة في فلسطين، ويتمّ ولادة حكومة صهيونية جديدة تلبس ثوب المرحلة الأخيرة التي وصل إليها المشروع المتمثل بـ " الاستيطان"، وهو يمثل وضوح الاستراتيجية العميقة للكيان، التي تقوم على فلسفة قلع فلسطيني وزرع يهودي مستوطن بدلاً منه، وعلى جميع القوى والسلطات والمسارات السياسية وعلى الدول المجاورة أن تتكيف مع هذه "المعادلة" التي تُعدّ روح الكيان ومستقبله وأمنه، لأنّ اختلال هذه المعادلة يمثل اختلالاً جوهرياً في مسيرة نموّ الكيان واكتماله.
كل ما يحدث في المنطقة يجب أن يجري في هذا الفلك، وأن يتكيف مع هذه المعادلة التي أجمع عليها كل قادة الكيان الصهيوني وأحزابه ومنظماته، وكل الحقائق التي اعتبرها بعضهم صادمة ومفاجئة، فهي في الحقيقة لم تكن كذلك، وإنّما مثلنا كمثل "قط الجزّار" الذي استمرأ لعق الدم عن سكين الجزّار الحادّة، واكتشف القط بعد مضيّ الوقت وبعد الاستغراق باللعق المصحوب بالألم اللذيذ أنّه فقد لسانه ولعق دمه..!! ( العرب اليوم )