وقد مكر الذين من قبلهم
عندما انطلقت الثورة السوريّة المباركة كانت سلميّتها واضحة، ولم تتحوّل إلى ثورة مسلّحة إلّا بعدما أغلق النظام الأسدي كلّ أبواب السلميّة ومارس القتل والقمع بحقّ المتظاهرين السلميّين باستمرار.
وكما في كلّ حرب ارتكب وسوف يرتكب طرفي الصراع أخطاء، وإن كانت أخطاء الثوّار والمجاهدين لا تقارن بجرائم النظام كونها جاءت كردّ فعل دفاعيّ عن تقتيل متعمّد. فليس لنا أن نحكم على ردود أفعال من تحمّل أبشع جرائم العصر، التي تغيّر من نفسيّة وعقليّة وتفكير البشر، ولا سيما صحّتهم، فيلجؤون إلى أعمال لا يدركها ولا يفهمها إلاّ من أحاط بها علمًا. فلك أن تتخيّل ماذا سيكون ردّ فعلك على قتل وذبح طفلك أو زوجك أو أختك.
هذا لا يعني ألّا ننتقد ونبدي رأينا فيما يحدث، فثمّة ممارسات لا يقبلها المنطق الإنسانيّ السليم، ناهيك عن المبادئ والأخلاق الدينيّة، فمن يُخرج أيّ جهة بشريّة من دائرة الانتقاد وارتكاب الأخطاء يصنع دكتاتوريّة وصنميّة جديدة قد تكون أخطر من تلك التي سبقتها.
كان مقتل الإمام البوطي وهو يدرّس في المسجد ليلة الجمعة الماضية بشعًا ومرفوضًا، بغضّ النظر عن الجهة المنفّذة. وبالرغم من تبرّؤ الجيش السوريّ الحرّ من العمليّة وعدم تبنّي أيّ جهة لها، إلّا أنّ بعض الردود المتشفّية تدلّ على أنّه ثمّة من يؤيّد هكذا أعمال إجراميّة، ممّا يبعث القلق ويحتاج إلى بعض التّحليل.
لقد أخطأ البوطي كثيرًا في مواقفه من الثورة السوريّة وفي إصداره فتاوى تخدم السلطان، مثل استناده إلى أحاديث تخالف صريح القرآن تضمن طاعة الأمراء وإن ضربوا الظهور وأخذوا الأموال وكانت قلوبهم "قلوب شياطين في جثمان إنس" (الحديث) في فتواه رقم (14778) الصادرة بتاريخ 4.7.2011 تحت عنوان "ضابط الخروج على الحاكم". وهو دليل على أنّ المشكلة ليست في الشخص فحسب، بل بالموروثات والروايات الدخيلة على الإسلام كذلك، التي يحسبها كثير من أبنائه على أنّها من الإسلام للأسف الشديد.
لكنّه كان صاحب مواقف لم تعجب النظام كذلك، مثل الفتوى (رقم 13060) التي أصدرها في تجريم من يُلجأ إلى القتل بغير حق والصادرة في تاريخ 5.6.2011 تحت عنوان: "القاتل المُلجأ يعتبر مجرمًا شرعًا وإن كان مجبرًا"، وكان نصها كالتالي: "نص الفقهاء على أن الملجَأَ إلى القتل بدون حق لا يجوز له الاستجابة لمن يلجئه إلى ذلك، ولو علم أنه سُيقتل إن لم يستجب له، ذلك لأن كلا الجريمتين في درجة الخطورة سواء، ومن ثم فلا يجوز للملجَأ إلى القتل تفضيل حياته على حياة بريء مثله". هذه الفتاوى وغيرها ما زالت منشورة في موقع الشيخ البوطي "نسيم الشام" حتى اللحظة.
لم تبرّر الفتاوى الخاطئة التي أصدرها البوطي قتله ولا الفرح بقتله، فالفكر والاجتهاد يواجه بالفكر والاجتهاد، وصاحب الحجّة المتينة القويّة هو الغالب لا محالة، فاجتهاد صائب يكفي لإبطال اجتهاد خاطئ، والناس أحرار في اختياراتهم. كما يجب أن يواجه الفهم التقليدي الخادم لسلطة الأمر الواقع بفهم جديد ونظرة مختلفة عن النظرة التقليديّة لبعض النصوص المحسوبة على الشرع، يكون فيها كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل هو الفيصل والحكم.
لقد علّمنا ديننا الحنيف أنّه {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (النساء: 93)، {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ} (المائدة: 32)، أضف إلى ذلك {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29). فما بالنا بالذي يتخذ موقفًا سياسيًا أو اجتهادًا دينيًا لا يوافق رأينا؟
إنّ قتل المختلفين معنا دليل عجز وضعف وجهل، فالفكر بالفكر يواجه، كما السّيف بالسّيف.
لقد كان ملفتًا للنظر أنّه في اليوم الذي تمّت فيه هذه العمليّة الآثمة في دمشق، تمّت عمليّة مباركة في أنقرة وهي وقف إطلاق النار بين حزب العمّال الكردستاني وتركيا، ومن المعلوم أنّ الشيخ البوطي كرديّ الأصل، وكأنّ القاتل أراد إيصال رسالة للأكراد بأنّه لا أمن ولا أمان لكم مع "هؤلاء" أينما كانوا.
هذه العمليّة – التي قُتل فيها حوالي 50 شخصًا وجُرح العشرات - تذكّرنا بتفجيرات المساجد والمعابد في العراق إبّان الحرب الأمريكيّة، التي حملت بصمات أجهزة الاستخبارات الأجنبيّة ولا سيّما الموساد لإشعال الفتن بين العراقيّين، السنّة ضدّ الشيعة، المسلمون ضدّ المسيحيّين، العرب ضدّ الأكراد، إلخ. فالمستفيد الأوّل هو عدوّ الأمّة.
كلّ أصابع الاتهام موجّهة إلى ثلاث جهات: 1) نظام الأسد؛ نظرًا لاحتمال تغيير جذريّ في موقف الشيخ وتأثير ذلك على كيانه، وكون النظام هو المسؤول الأوّل عمّا يجري في سوريا 2) الاستخبارات الخارجيّة وعلى رأسها الموساد؛ لإثارة الفتن وسفك مزيد من الدماء 3) التكفيريّون المتطرّفون الجهلاء (من أيّ طائفة وخلفيّة أيديولوجيّة كانت)؛ لجهلهم وحقدهم الأعمى. وكلّ هؤلاء مجتمعون في معاداة الإسلام والثورة السوريّة العظيمة.
مهما كانت هويّة المنفّذ وحقيقة الأسباب من وراء هذه العمليّة الآثمة، فإنّ الثورة السوريّة مستمرّة لا محالة ومنتصرة بإذن الله، بالرغم من الأخطاء التي قد ترتكب ومن وجود المنافقين، وبالرغم من مكر الماكرين {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد: 42).