أبعاد استراتيجية لتطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية
(جاء المتغير السياسي التركي تكتيكيا، لينقل تركيا من موقف الحليف المنحاز إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى موقف "الوسيط" بينها وبين العرب في "عملية السلام" الأميركية التي تستهدف استراتيجيا الاعتراف العربي بها)
عندما تتزامن تصريحات أميركية وإسرائيلية وتركية عن تجديد إحياء فكرة إنشاء مناطق أمنية ومنطقة حظر طيران في سورية على خلفية رعاية الولايات المتحدة للبدء في تطبيع العلاقات التركية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، فإنه لا يمكن إلا الربط بين التطورين.
فنجاح الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال زيارته الأخيرة للمنطقة في إنهاء قطيعة بين انقرة وبين تل أبيب استمرت قرابة ثلاث سنوات لا يمكنه إلا أن يشير إلى محاولة أميركية جادة لإحياء المحور الإقليمي الأميركي – التركي – الإسرائيلي بكل ما يعنيه ذلك من أبعاد استراتيجية.
يوم الخميس الماضي قالت الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية، فيكتوريا نولاند، إن بلادها "تدرس بعمق" خيار الاستجابة للمطالبة التركية القديمة المتكررة ب"فرض" منطقة "حظر طيران فوق سورية"، وكان قائد القوات الأميركية في أوروبا الأدميرال جيمس ستايريديس قد أبلغ لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ بالكونجرس في أوائل آذار الجاري انه "يجب أن يساعد حلف الناتو في ... فرض منطقة حظر طيران" سورية، وهو ما يثير الشكوك في صدقية أمين عام حلف الناتو، اندرس فوج راسموسن، عندما يكرر نفي أي مشاركة للحلف في فرض أي منطقة حظر كهذه بحكم القيادة الأميركية للحلف وبحكم رعاية الحلف لنشر بطاريات صواريخ "باتريوت" على الجانب التركي من الحدود السورية.
وفي اليوم الجمعة التالي قالت القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي إن "صناع القرار" في دولة الاحتلال يدرسون "بصورة جادة للغاية" إقامة "منطقة عازلة" في الجولان العربي السوري المحتل بينما نقلت صحيفة "اسرائيل هايوم" عن قائد المنطقة الشمالية، يائير غولان، قوله إن "الإجراء الذي لا يمكننا بالتأكيد استبعاده هو إقامة منطقة أمنية على الجانب الآخر من الحدود"، "بعمق عدة كيلومترات داخل سورية"، بعد أن أقام غولان "مشفى ميدانيا" في الجولان المحتل لاسعاف جرحى المسلحين الذين يقاتلون الحكم في سورية الذين يجهدون أيضا لإقامة منطقة مماثلة على الحدود الأردنية السورية.
ومن المؤكد أن تطبيع العلاقات التركية – الإسرائيلية سوف يسهل التنسيق بين الطرفين لهذا الغرض. إن المستوى الرفيع لوفد إسرائيلي من المقرر وصوله إلى أنقرة هذا الأسبوع، ظاهريا لمناقشة تفاصيل "التعويضات" التي سوف تدفعها دولة الاحتلال لعائلات الأتراك الذين قتلتهم على متن سفينة "مرمرة" عام 2010 يشي بصورة واضحة أن مهمة الوفد تتجاوز كثيرا مناقشة مسألة مالية يمكن لخبراء فنيين من الطرفين التفاهم عليها، إذ سترأس هذا الوفد وزيرة العدل تسيبي ليفني ويضم في عضويته مستشار الأمن القومي يعقوب عميدور ومستشار رئيس الوزراء يتسحاق مولخو.
والحرص التركي على نفي وجود "أي صلة" بين الاعتذار الإسرائيلي عن مقتل الأتراك في سفينة مرمرة وبين "سياسة تركيا تجاه إيران وسورية"، كما قال وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، يندرج في المثل القائل "يكاد المريب أن يقول خذوني".
فالرئيس الأميركي عراب "المصالحة" قال في بيان صادر عن البيت الأبيض "إننا نولي أهمية كبيرة لإعادة العلاقات الايجابية" التركية الإسرائيلية "من أجل تقدم السلام والأمن الإقليمي" و"ليتمكنا من الانخراط في تعاون أعمق".
ووزير خارجيته جون كيري في بيان رسمي اعتبر "المصالحة" بين تركيا وبين دولة الاحتلال "تطورا هاما جدا سوف يساعد قضية السلام والاستقرار في الإقليم".
وفي بيان رسمي قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان إنه أبلغ نظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن علاقاتهما الثنائية "ذات أهمية استراتيجية حيوية للسلام والاستقرار الإقليمي"، واعتبر تطبيع العلاقات الثنائية "بداية عملية ترفع تركيا إلى مركز سوف يكون لها فيه ثانية قول ومبادرة وقوة" و"تسهل السلام الإقليمي".
وكرر نتنياهو في تصريحات رسمية تأكيده أن "المصالحة" تتجاوز العلاقات الثنائية إلى التعاون إقليميا.
في مقال له بتاريخ الثالث من شباط 1999 عدد إفرايم اينبار مدير مركز بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية "المصالح الاستراتيجية المشتركة" بين تركيا وإسرائيل التي تجعل منهما "حليفين طبيعيين"، فذكر أولا أن كليهما يعتمد على الولايات المتحدة لضمان أمنه.
وثانيا أن إبقاء الشرق الأوسط مفتتا سياسيا وعسكريا "مصلحة استراتيجية أساسية" لكليهما تقتضي منع ظهور أي قوة "إقليمية مهيمنة".
وثالثا أنهما "يواجهان في سورية عدوا مشتركا"، فكلاهما لديه "منازعات خطيرة مستمرة معها.
ورابعا أن لكليهما "مصلحة مشتركة في الحد من نفوذ الإسلام الراديكالي".
وخامسا أن لكليهما "مصلحة ملزمة في منع دول شرق أوسطية أخرى من امتلاك اسلحة دمار شامل".
وسادسا أن كليهما يسعى إلى تطوير قدراته وصناعاته العسكرية.
وبعد حوالي أربعة عشر عاما من هذا التقييم تبدو "المصالح الاستراتيجية المشتركة" التي عددها اينبار ثوابت لم تتغير في العلاقات الثنائية التركية الإسرائيلية.
وفي إطار هذه الثوابت جاء المتغير السياسي التركي تكتيكيا، لينقل تركيا من موقف الحليف المنحاز إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى موقف "الوسيط" بينها وبين العرب في "عملية السلام" الأميركية التي تستهدف استراتيجيا الاعتراف العربي بها كجزء من منظومة إقليمية غير عربية، أو لا يهيمن العرب عليها، ك"مصلحة استراتيجية مشتركة" إضافية لم يذكرها إفرايم اينبار.
ودور "الوسيط" التركي كان يقتضي طبعا عدم الانحياز في الصراع العربي الإسرائيلي، ما يقتضي بدوره تحسين العلاقات التركية العربية، ومن هنا العلاقة "الاستراتيجية" التي أقامتها تركيا مع "السلطة" و"المعارضة" الفلسطينية على حد سواء، ومع سورية قبل أن تفجرها الأزمة الدامية المستمرة فيها، ومن هنا كذلك وساطة تركيا في رعاية محادثات سورية – إسرائيلية غير مباشرة، ودخولها وسيطا أيضا في الملف النووي الإيراني.
لكن صمود المحور السوري – الإيراني حتى الآن أفقد تركيا كل مؤهلاتها للعب دور الوسيط من ناحية، وأعاد لتركيا وإسرائيل معا أهميتهما في الاستراتيجية الأميركية الإقليمية التي فقدتاها بانهيار الاتحاد السوفياتي السابق.
* كاتب عربي من فلسطين