«الغموض المزدوج» و«فقه الواقع»

حملت صحيفة الوطن السورية الموالية للنظام في دمشق، على ما أسمته “الغموض المزدوج” الذي يميّز السياسة الأردنية حيال الأزمة السورية، وتوقفت أمام “ما يجري تحت الطاولة وفوقها”، عارضة للضغوط التي يتعرض لها الأردن من جبهة خصوم النظام في المنطقة والعالم.
بصرف النظر عن سيل الاتهامات والانتقادات التي كالتها الصحيفة للسياسة والمواقف الأردنية، إلا أنها أصابت في شيء واحد فقط، حين تحدثت عن “غموض” في الموقف الأردني، وهو غموض تمليه رغبة الدبلوماسية الأردنية، في تجنب الانزلاق عميقاً في دهاليز وأقبية الأزمة السورية، وادراك هذه الدبلوماسية لعدم قدرة الأردن على الاصطدام المباشر بجبهة كونية تناهض النظام السوري، كما يحلو للإعلام السوري أن يصف دائرة خصومه، وبطريقة لا تخلو من “الفخر” و”الزهو”، مع أن استقطاب النظام -أي نظام- لعداء العالم بأسره تقريباً، يجب أن يُدرج في خانة الفشل لا أن يعد نجاحاً ودلالة على صوابية الموقف والتوجه.
لن يستطيع الأردن مهما علت الأصوات وارتفع ضجيجها، أن يقف إلى جانب النظام القائم في دمشق، هذا محظور (خط أحمر) ليس لاعتبارات سياسية وأخلاقية وقيمية فحسب، بل ولأسباب تتعلق بصميم مصالح الأردن الوطنية، فالنظام الغارق لا محالة، والذي أغرق سوريا في بحر من الدماء والخرائب، لا يمكن أن يكون عامل تعظيم لمصالح الأردن وأمنه واستقراره، والمؤكد أنه لا يستحق المقامرة بعلاقات الأردن العربية والدولية، من أجل الانتصار له والذود عنه، خصوصاً وهو الذي أدار ظهره لكل نداءات الحل السياسي، وأحبط الفرصة تلو الأخرى، لمنع انزلاق سوريا إلى ما آلت إليه.
لكن الأردن في المقابل، لا يستطيع أن “يعوم” على سطح المواقف الأقصوية حيال سوريا، لا يستطيع أن يجند نفسه لدعم السلفيين والإخوان المسلمين كما تفعل دول المحور الداعم للمارضة السورية، ولا أن يستجيب لنداءاتها وضغوطها من أجل فتح حدوده على مصراعيها، للسلاح والمسلحين، كما هو الحال على حدود سوريا الشمالية (مع تركيا) وعلى حدوده مع لبنان، حيث تعمل القوى الحليفة على جعل حدود لبنان ومناطق نفوذها، قاعدة إسناد وتهريب، لكل السلاح والمسلحين.
إزاء وضع معقد كهذا، فإن “الغموض البناء” وليس “الغموض المزدوج”، هو طوق نجاة الدبلوماسية الأردنية في تعاملها مع المحنة السورية، وهذا ما يجعل الموقف الأردني، قوياً ومتميزاً إلى حد كبير، حتى أن ردة الفعل السورية الرسمية، طالما حرصت على “تمييز” الأردن عن “المحور الثلاثي”، حتى وهي في ذروة غضبها على “الخارج”، وكانت على الدوام، أكثر “حنواً” عند توجيهها سهام النقد لعمّان.
لم تك عمان على وفاق دائم مع دمشق، والنظام في الأردن ليس على “وئام” و”غرام” مع النظام في دمشق، لكن عمان (الرسمية على الأقل) تخشى ما تبقى من سيناريوهات تنتظم الأزمة السورية وتنتظرها، تخشى انفلات سوريا وتقسيمها ووقوعها في حرب مذهبية مريرة ومديدة، تخشى سيطرة الإخوان المسلمين على مقاليد الحكم هناك، لأن ذلك سيؤثر على موازين القوى المحلية هنا في الأردن، تخشى تحول سوريا إلى قاعدة آمنة للسلفية الجهادية (أنبار 2)، جميع هذه السيناريوهات التي قد تبدو محببة لدول “المحور الثلاثي”، لا تبدو كذلك من وجهة نظر عمان، التي لا يفصلها عن الحدود مع سوريا سوى تسعين كيلومتراً فقط، وهي المسافة (المساحة) التي يقطن فيها أكثر من ثلاثة أرباع الأردنيين.
لا تستطيع الدبلوماسية الأردنية، سوى أن تنهج سياسة “الغموض البناء” إن هي أرادت الخروج بالأردن من عنق زجاجة الأزمة السورية، بأقل قدر من الأضرار والخسائر، والأرجح أن هذا الموقف سيظل على حاله، ما لم تملِ تطورات الميدان في سوريا على عمان، تغييراً درامياً في مقاربتها ونهجها، والأردن من قبل وبعد، غير قادر على استجلاب الحل السياسي للأزمة السورية، ومن هذا المنطق، نراه يعمل على “إدارة موقفه” من الأزمة بطريقة فيها الكثير من الحذر والتحوط والغموض.
و”الغموض البناء” يفيد الدبلوماسية الأردنية، في “تحريك” مواقفها وسياساتها في هذا الاتجاه أو ذاك، وفقاً لتطورات الميدان، وفي ظني أن الحديث عن منطقة آمنة في جنوب سوريا، وقرب إعلان شمال الأردن منطقة منكوبة، والشروع في نسج علاقات مع المعارضات السورية، والقوى المسلحة الفاعلة في جنوب البلاد، بما في ذلك “تدريب بعضها وتسلحيه”، هو أمر يندرج في سياق “فقه الواقع”، وهو أمر سبق وأن خبرناه ومارسناه في مناطق غرب العراق حين تحولت إلى ملاذ آمن للقاعدة، ففي غياب الدولة المركزية، وسقوط مناطق حدودية شاسعة في قبضة السلاح والمسلحين، ليس بمقدورك الجلوس على مقاعد المتفرجين، بانتظار هدأة غبار المعارك، ليس بمقدورك الاستمرار باجترار شعارات ومبادئ لطالما احترمتها ورددتها من نوع: “عدم التدخل” و”النأي بالنفس”، فأنت لا تمتلك الترف ولا الوقت للتصرف بعشوائية. ( الدستور )