عن القدس والمقدسات

بعيدا عن التأويلات التي رافقت اتفاقية عمان بشأن حماية القدس والمقدسات، وما تنطوي عليه لجهة التوقيت والأهداف، لاسيما أنها تشرّع أمرا واقعا يتعلق بالإشراف الأردني على المقدسات في المدينة، وبعيدا عن قول الرئيس الفلسطيني: إن الأمر لا صلة له باستئناف المفاوضات، ولا بملف الكونفدرالية بوصفهما التأويلين اللذين طرحهما المراقبون. بعيدا عن ذلك كله، فإن ملف القدس الشرقية كان ولا يزال الأكثر حساسية في كل ما يتعلق بملفات المفاوضات على مر العقود (لا أحد يتحدث عن القدس الغربية ).
ما ينبغي التذكير به مجددا هو أن ملف القدس الشرقية هو الذي أفشل عمليا مفاوضات كامب ديفيد صيف العام 2000، وليس أي شيء آخر، إذ كانت سائر الملفات الأخرى برسم التسوية، بخاصة اللاجئين الذين تم التنازل عمليا عن حقهم في العودة إلى الأراضي المحتلة عام 48، وهو التنازل التي تم منحه شرعية عربية بعد ذلك في المبادرة العربية التي صدرت عن قمة بيروت عام 2002 بحديثها عن “حل متفق عليه”؛ لا يعني في واقع الحال سوى التنازل عن حق العودة مقابل التعويض؛ هذا إذا كان بالإمكان الحصول على تعويض، ولم تجر مبادلته بما يسمى ممتلكات اليهود في الدول العربية.
تمنحنا وثائق التفاوض التي نشرتها الجزيرة مطلع العام 2011، فرصة للمزيد من التعرف إلى المواقف الإسرائيلية من هذا الملف الذي يعتبر الأكثر حساسية في العقل الإسرائيلي بشتى تنويعاته السياسية والدينية، وتتعلق الوثائق للتذكير بالمفاوضات التي جرت بين قيادة السلطة، وبين حكومة أولمرت – ليفني التي ورثت حكومة شارون بعد دخوله في الغيبوبة.
في الوثائق نكتشف كرما استثنائيا من طرف السلطة في قضية القدس الشرقية كان هدفه الأساس تجاوز هذه العقبة بغية التوصل إلى اتفاق نهائي بدل المضي في برنامج شارون للحل الانتقالي بعيد المدى الذي أصبح عمليا عنوان السياسة الإسرائيلية، بينما تمضي فيه السلطة مضطرة لأن البديل الآخر لا وجود له في عقلها ممثلا في المقاومة من أجل الحصول على فرصة سياسية أفضل، فضلا عن إطلاقها (أي المقاومة) مع رفع شعار واضح ومحسوم عنوانه الانسحاب غير المشروط من الأراضي المحتلة عام 67.
سبب التنازلات التي قدمتها السلطة على هذا الصعيد يتمثل في إدراكها لحقيقة أنها لن تحصل على ما هو أفضل مما عُرض عليها في كامب ديفيد عام 2000، وأن التشدد في هذا الملف سيؤدي عمليا إلى إفشال أي حل، ومن ثم المضي في برنامج الحل الانتقالي أو الدولة المؤقتة بتعبير أدق؛ الأمر الذي تثور الشكوك حول قدرتها على فرضه على الشارع الفلسطيني.
في مفاوضات (صائب عريقات، أحمد قريع) مع ليفني لاحظ الجميع ذلك الكرم الاستثنائي في التعاطي مع ملف القدس، إذ قال عريقات لليفني: إنه يعرض عليها “أكبر أورشليم في التاريخ اليهودي”، غير أنها رفضت حتى مناقشة الموضوع، مع ضرورة التذكير بأن تشدد ليفني لا يعكس موقفها فقط، إذ تحظى قضية القدس بإجماع في الساحة السياسية الإسرائيلية، وحتى يوسي بيلين، “حمامة السلام الإسرائيلية”، كان يقول: إن جبل الهيكل بالنسبة لليهود هو مثل الكعبة بالنسبة للمسلمين، والمصيبة أن الهيكل المذكور لا يزال مجهول المكان، بفرض أنه موجود أصلا، وهو ليس كذلك؛ لأن كل الحفريات التي تتم منذ عام 67 لم تسفر عن العثور على أي أثر له، لكنه برأيهم موجود في الكيلو متر المربع الذي تتواجد فيه المقدسات الإسلامية (المسجد الأقصى وقبة الصخرة)؛ ما يعني أن تلك المساحة ينبغي أن تبقى تحت السيادة الإسرائيلية (أقله حق الحفر تحتها)، وهو ما رفضه ياسر عرفات وأدى إلى انهيار محادثات كامب ديفيد.
كانت صيغة كلينتون التي عرضت في كامب ديفيد عام 200 هي أن الأحياء العربية للعرب واليهودية لليهود، مع منح اليهود جزء من منطقة المسجد (حائط البراق، وقيل جزء آخر يقام عليه كنيس يهودي)، مع سيادة على ما تحت المسجد من أجل استمرار الحفر بحثا عن الهيكل، لكن قريع وعريقات كانا أكثر كرما، إذ عرضا التنازل عمليا عن سائر المناطق التي استولت عليها المستوطنات في القدس ما عدا مستوطنة “هارحوما” جبل أبو غنيم، إضافة إلى التنازل عن الحي اليهودي وجزء من الحي الأرمني، مع استعداد لمبادلة الشيخ جراح بمناطق أخرى. كما تم الحديث عن “صيغة خلاقة” لإدارة الحرم.
منذ ذلك الحين (بل منذ العام 67)، لم تتوقف عمليات التهويد للمدينة المقدسة، ومن ضمنها استهداف المسجد الأقصى، رغم أن الجهود الأردنية، والنشاط الكبير للحركة الإسلامية في مناطق 48 بقيادة الشيخ رائد صلاح، قد ساهما في كبح تلك العمليات على نحو ما، فيما يعلم الجميع أن فترات الاسترخاء الأمني (أفضلها منذ العام 2004 وحتى الآن) كانت تمنح الاحتلال فرصة أكبر لتصعيد مستوى الاستيطان والتهويد لمدينة تخضع عمليا للاحتلال الكامل.
خلاصة القول هي: ان الموقف الإسرائيلي من هذا الملف بشقيه (التهويد، الموقف التفاوضي) لن يتغير من دون تغير في النهج الفلسطيني، ومن ورائه العربي في التعامل مع الاحتلال، والنتيجة أن بقاء الحال على ما هي عليه وعدم تفجر انتفاضة جديدة، لن يفضي لغير مسار الدولة المؤقتة في حدود الجدار. ( الدستور )