ديمقراطية الندرة الاردنية
لقد عانى اجدادنا الاوائل في البحث عن المكان المناسب والاستقرار فيه ؛ الذي يضمن لهم الامن ويمنحهم استقلال القرار وفرص الرزق ، فكان الامن همهم الاول حتى استقروا في هذه الارض الطيبة التي صدقوا الاستقرار بها فصدقتهم امنا وطمأنينة ومنحتهم رزقا، فاتخذوها وطنا ومستقرا لهم ، فبادلتهم الارض صدقا بصدق وحبا بحب ،واستطاعوا بفضل جهودهم المتواصلة واصرارهم ونشاطهم ، وبفضل قيادتهم الهاشمية التاريخية المؤهلة ، حاملة لواء الثورة العربية الكبرى، ان يحولوا هذه الارض إلى كيان مزدهر يشهد له القاصي والداني بالامن والاطمئنان والرفاه ، لقد كان طلب الامن واستقلال القرار سببا في اختيار الموقع . ولقد حبا الله الاردن موقعا يحسد عليه باجوائه المعتدلة وجباله الشماء وسهوله الخصبة ،وان عز ماؤه فقد روى اهله ارضه بعرقهم ودمائهم، وشادوا بنيانه بما جبلوا عليه من عزيمة وصبر وجلد ،وبما تحلوا به من قيم الحرية والتعاون والتكافل والتواصل مع الاخرين ،كل ذلك في تسامح لا يحمل اي حقد او رياء ، وشموخ لا يقبل تنازلا في حق الارض والوطن، هكذا كان الاردن في بواكيره ،وهو والحمد لله ما زال كما كان ، ولكنه يحاول ويسعى على الطريق نفسه في تقدمه وارتقائه عبر السنين المتتالية.
لقد ولدت العزة والحرية والديمقراطية في ربى الاردن مع ولادة الوطن ،ونشأت مع نشأته؛ فاصبحت نسيجا من بنيانه ومكونا من مكونات استمراره ، فقد حرص اجدادنا الاوائل على الشورى وتبادل الرأي في كل ما يهمهم وما يعترض طريقهم من صعوبات ، ولعبت العقيدة الاسلامية والعادات والتقاليد العربية الاصيلة دورا رياديا في العمل بمبدأ الشورى بدرجات متفاوتة، وبشكل يتلاءم مع درجات النمو والتطور الذي شهده المجتمع الاردني ، وتستمر مسيرة عملية المشاركة السياسية والشورى التي تأصلت في قرارات النفوس، اذ تم تأسيس اول مجلس تشريعي مع باكورة تاسيس الامارة .
اما الديموقراطية اليوم فهي عملية حيوية وذات اهمية قصوى لسير وتفعيل الحياة السياسية وتنشيط الاقتصاد ،وتجاوز التحديات التي يمر بها الاردن، ولكنها ليست ديموقراطية الرفاه بل ديمقراطية الندرة، ولها متطلبات مختلفة عن الاولى، ومن تلك المتطلبات ان يعرف الجميع حدود وقدرة الدولة المادية للوفاء باحتياجات الناس من جهة، وتوائم خططهم ليس في سبيل الدفع بفلسفة التوزيع، ولكن في سبيل الدفع بفلسفة التجويد.
وليست الديمقراطية عملية اقتراع في موسم انتخابي كما يظن البعض؛ فلا يمكن تعريف الديمقراطية على انها عملية اقتراع او صندوق انتخابي فقط ؛ لقد اثبتت التجربة ان التعددية السياسية والعمل في اطار القوانين والتشريعات التي افرزتها الدولة هي بداية الطريق نحو التأسيس لثقافة الديمقراطية التي لا تعرفها معظم شعوب المنطقة ،وانما يتغنون باسمها دون ان يمارسوها، او قل لم تصلهم بعد.
ان ربيع الديمقراطية في الاردن حري به ان يزهو ويزهر ويثمر وينضج ويؤتي اكله ، وما يحصل من مخاض دليل على سلامة ما يحمل في ثناياه ،وهو ايضا مؤشر حقيقي على صحة التجربة الديمقراطية ، ومن هنا لا مجال للخوف من اي تداعيات محتملة عليه بسبب ما شهده ويشهده الاردن في السنوات الاخيرة من شد وجذب وصل إلى حد ازمة سياسية، فعلها مخاض لا بد منه، ولكن نقول هذه هي الديمقراطية التي تعني الصخب والنقد والرأي الاخر، سواء كان في حدوده الدنيا او العليا.
ان التجربة الديمقراطية مفعمة بالخصوصيات ،فهي تعيش في حالة من النقاش المفتوح حول عدد من القضايا المتعلقة بعملية بناء الدولة ومراجعة الدستور وتطويره، ونظام الحكم وهيكلة المؤسسات، وهذا ما تظهره بعض التطورات السياسية التي شهدت في الاونة الاخيرة ،ولا سيما احتدام الصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبالتاكيد في قسم منها نتيجة مباشرة لعملية التحديث السياسي، غير انه لا بد من النظر في تطويرها وتصحيح مسارها باستمرار من خلال آلياتها وادواتها المقررة في الدستور طالما انها مطالبة بالتعبير عن المجتمع بمختلف افكاره واتجاهاته واطيافه، بعيدا عن التدخل القسري من السلطة العليا ،حتى تصل إلى وضع الثبات والاستقرار مثلما في كل التجارب الديمقراطية المستقرة والمزدهرة في العالم، وعندها يمكن الجزم بان التجربة الاردنية ما هي سوى نسخة مسبقة لتطورات قد تأتي في الدول العربية الاخرى ،يمكن ان تشكل معادلة ناجحة لديمقراطية واعدة .